إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنـــا وسيئـــات أعمــالنــا، مـن يهـــــد الله فلا مضل له، ومن يضـلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعــد :
فالإسلام منهج حياة متكامل، تناول كل جوانب الحياة، ونظّم العلاقات الإنسانية كلها، ووضع لها أحكامًا وقواعد على مقتضى الحق والعدل.
فلم يقتصر على بيان علاقة الأفراد بخالقهم، والتي هي أساس كل علاقة، بل اتسع ليستوعب شؤون العلاقات الاجتماعية بين المسلمين بعضهم مع بعض، وبين المسلمين ومخالفيهم، على نحو لم تعرف البشرية شبيهًا ولا مثيلاً له.
ولم يكتف كذلك بالتنظير، بل ربط بين المعرفة والعمل برباط متين في كثير من النصوص، وطلب من أتباعه أن يكيِّفوا سلوكهم وفق قواعده وتعاليمه، وأن يحكموا الرباط بين الفكر والمسلك كارتباط القاعدة بالبناء، ليكونوا -بحق- خير أمة هادية للحقيقة التي ضل عنها كثير من الناس.
والإسلام هو الدين المهيمن على الدين كله، ومعتنقوه شهداء على الناس.. ولكي يصدق على المسلم وصف الشاهد، لابد أن يكون على مستوى إسلامه، منهجًا وفكرًا وتصورًا وسلوكًا.
وهذا المستوى الرفيع لا يتحقق إلا بالعبودية لله، وبالاستقامة على طريقة الشرع، وعندئذ يصبح داعية بسلوكه في بيئته، وسفيرًا للإسلام في مجتمعه، وكم من مجتمع أسلم أهله لما رأوه ولمسوه من مكارم أخلاق الدعاة، ومواقفهم الطيبة مع الآخرين، وبرهم بهم، وقسطهم إليهم، فلم يملكوا إلا أن أخضعوا عقولهم ومداركهم لما يحمله هؤلاء من عقيدة وفكر. وبهذا يتحقق المقصد الأسمى من خلق الناس، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب.
ولما كان سبحانه وتعالى وعد بإظهار دينه، وإدخاله كل بيت، بعز عزيز أو بذل ذليل، كان طبيعيًا أن يوجــد مسلمـــون في ديــار غيرهــم، إما بحكم النشأة، أو الهجرة.
وهؤلاء المسلمون في الغالب أحد رجلين :
إما متشدد يعتزل أهل الملل الأخرى، ويعاملهم بغلظة، بل قد وصل الأمر إلى حد استباحة أموالهم.
وإما متساهل مع المخالفين إلى حد التوادد والرضا، بل والذوبان التام، وفقدان الشخصية الدينية.
ومن هنا جاءت هذه الدراسة، إسهامًا في جهود ترشيد الصحوة، ليستعيد المسلم دوره في الريادة، ولتكون شعلة تضيء الطريق، وتجعل المسلم على هدى ونور، معتمدًا فيها على نصوص الكتاب، وما صح من السنة، وإجماع الأمة، مسترشدًا بأقوال الصحابة، والتابعين، وأئمة المذاهب وغيرهم، مبتعدًا عن التعصب والتقليد لإمام بعينه، سائرًا مع الدليل حيث سار، لأن الله تعبدنا به دون سواه.
جاءت هذه الدراسة على فصلين، كل فصل حوى عدة مباحث، ومطالب، ومسائل، وفروع منتقاة، مما يتطلع المسلمون في ديار غير المسلمين إلى معرفته، لتصحيح سلوكهم مع مخالفيهم، وضبط تعاملهم مع غيرهم، بحكم الخلطة والجوار، على أساس قويم.
ولا يفوتني أن أنبه إلى أن هذه الأحكام إنما اختيرت من رسالة ضخمة (حوالي 700 صفحة)، حوت الأحكام التي يفتقر إلى معرفتها المسلم في ديار المخالفين، في شتى مجالات الحياة، على وجه التفصيل.
وهي في الأصل رسالة علمية نلت بها درجة الماجستير من (كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية) في بيروت، في ربيع الأول من سنة 1415هـ، بعنوان : (الأحكام الشرعية لمسلمي البلاد غير الإسلامية)، وهي قيد الطبع والنشر إن شاء الله.
وما تمَّ اختياره هنا من أحكام إنما كان ثمرة مناقشات ومحاورات مع عدد كبير من المختصين، الذين سبق أن أقاموا في ديار غير المسلمين لفترة طويلة.
والله ولي التوفيق.
خالد محمد عبد القادر
المبحث الأول : أقسام مجتمعات المخالفين حسب دياناتها
المبحث الثاني : موقف الشريعة من المخالفين وأصل علاقتها بهم
المبحث الثالث : أقسام ديار غير المسلمين بحسب موقفهم من الإسلام وأهله
تقسيم المجتمعات البشرية على أساس العقيدة، ليس بالأمر النظري الذي لا أثر له في مسيرة الحياة بالنسبة لنا، أو لا تترتب عليه أحكام، بل إن بحثنا هذا بأكمله ما هو إلا نتاج هذا التقسيم، لما ينشأ عنه من آثار بالغة الأهمية، تمس المرء المسلم في دنياه وأخراه، إذ أن الشرع الحنيف شرَّع الكثير من الأحكام التي تبين للمسلم كيفية التعامل مع غير المسلمين، وما يجب أن يكون عليه موقفه منهم في شؤون الحياة المتنوعة، وطبيعة الصلة بهم، وموقعه بالنسبة لحكوماتهم التي يقيم تحت ظل قوانينها. ومجتمعات غير المسلمين تتباين بحسب أصول عقائدها، فهي ليست سواء، وليست على درجة واحدة، وفي مستوى واحد في نظر الشرع.
المبحث الأول : أقسام مجتمعات المخالفين حسب دياناتها
البشر في نظر الشريعة الإسلامية، ينقسمون بحسب الديانة، إلى طائفتين كبيرتين :
أ – طائفة المسلمين.
ب – طائفة الكافرين.
والذي نبغي بيانه هنا هو طوائف الكافرين المشهورة منها، وذائعة الصيت، وهؤلاء أصناف وملل شتى، يجمعهم وصف واحد وهو الكفر، وإن كان لكل صنف منهم اسم خاص يميزه عن الآخر.
(والكافر هو من لم يؤمن بوحدانية الله سبحانه وتعالى، أو بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم، أو بشريعته، أو بثلاثتها) (1).
وبعبارة موجزة : هو من لم يعتنق دين الله الحق (الإسلام).
وهم أصناف :
أولاً : أهل الكتـاب :
اختلف الفقهاء في تحديد الكتابي، وفيمن ينطبق عليه هذا الوصف، إلى فريقين :
الفريق الأول : الحنفيـة :
فقد ذهبوا في تعريفه إلى أنه : (هو كل من اعتقد دينًا سماويًا، وله كتاب منزل، كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وشيث، وزبور داود) (2)، ونص على ذلك الشافعي (3).
فأهل الكتاب عند هؤلاء ليسوا هم اليهود والنصارى كما هو مشهور فحسب، بل هم من لهم كتاب ذو أصل سماوي.
ويظهر أن الحنفية ومن وافقهم، نظروا إلى طبيعة اللفظ اللغوية (أهل الكتــــاب)، أي أصحـــاب أي كتــاب سمـــاوي، وبه قــال أبــو يعلــى، مــن الحنابلة (4).
الفريق الآخر، وهم جمهور الأمة من العلماء والفقهاء :
فقد قالوا : (إن أهـل الكتاب هم اليهود والنصارى فقط)، ولا يدخل غيرهم في هذا المسمى، لقوله تعالى : (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) (الأنعام : 156).
ووجه الدلالة، أن أهل الكتاب لـو كـانوا أكثر من طائفتين لما خصهم بهما (أي بالطائفتين).
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : إن المقصود بالطائفتين هم اليهود والنصارى، وذهب ابن عطية إلى إضافة القول : (بإجماع من أهل التأويل).
وقال أصحاب هذا القول : وأما أصحاب الصحف فلا يدخلون تحت مسمى (أهل الكتاب)، لأنهـا كانت مواعـــظ، وأمثالاً لا أحكـــام فيهـــا ولا شرائع، فلا يثبت لها حكم الكتب المشتملة على الأحكام.
ولا يشترط في الكتابي أن يلتزم بدينه عقيدة وسلوكًا، فقد ذهب جمهور الأمة (5) إلى أنه تكفي العقيدة، فبمجرد أن يعتقد شخص دينًا من أديان أهل الكتاب فإنه يصبح به كتابيًا، ولو لم يلتزم بالعمل بأحكامه، أو لم يكيّف منهجه وفق منهج دينه.
وأما ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من اعتراضه على الصحابة لما اعتبروا عرب بني تغلب المتنصّرين من أهل الكتاب، أنه قال : (إنهم ليس معهم من النصرانية سوى شرب الخمر)، فأجابه جميع الصحابة : (حسبنا أنهم صاروا نصارى).
وردّ ابن عبــاس رضــي الله عنهمـا فقــال : قــال تعـالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (المائدة : 51).
فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية في نصرهم، وتوليتهم إياهم في الحـــرب لكــانوا منهــم (6)، واتفــق الصحابــة علـى ذلك مــا عـدا عليًا رضي الله عنه (7)، وصالحهم عمر رضي الله عنه على الجزية (8).
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يكره ذبائحهم ونساءهم، ولم يحرمهما (9).
ثانيًا : المجوس :
المجوس قوم يعظمون الأنوار، والنيران، والماء، والأرض، ويقرون بنبوة زرادُشت (10)، وقيــل : كــان لــه كتاب، ولهــــم شــرائع يقرون بهـا، وهــم فـــرق شتى (11).
واختلف الفقهاء : هل المجوس أهل كتاب أم لا؟ على قولين :
القول الأول : وهو قول جماهير الأمة، أنهم ليسوا بأهل كتاب (12).
القول الثاني : وهو قول الشافعي، أنهم أهل كتاب.
فقد قال في الأم (13) : (والمجوس كانوا أهل الكتاب، يجمعهم اسم أنهم أهل كتاب مع اليهود والنصارى). وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان للمجوس كتاب يقرؤونه وعلم يدرسونه، ولكنه رفع (14).
وقال الصنعاني : (ولا يخفى أن في قول النبي صلى الله عليه و سلم :{سنوا بهم سنة أهل الكتاب} (15)، ما يشعر بأنهم ليسوا بأهل الكتاب) (16).
قلت : ومما يؤيد رأي الجمهور، عدم حل ذبائحهم ونكاح نسائهم، باتفاق أهل العلم إلا (أبا ثور) (17). ومن جهة أخرى، فإن قول علي رضـــي الله عنــه والشافعـــي رحمـــه الله خــلاف ما تــدل عليــــه آيـــة : (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) (الأنعام : 156)، إذا نحن أخذنا بظاهرها، لتصبح لدينا ثلاث طوائف بدل اثنتين.
أماكن وجودهم : توجد في إيران في الوقت الحاضر طائفة من المجوس، يبلغ عددها المليون تقريبًا، ولهم معابد ونيران (18) لا يدعونها تخمد لحظة واحدة (19).
ثالثًا : الدهريون :
الدهريون ينكرون الخالق، ويقولون : لا إله ولا صانع للعالَم، وأن هذه الأشياء وجدت بلا خالق.. فهم قد عطلوا المصنوعات عن صانعها، وقالوا ما حكــاه الله عنهـــم : (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) (الجاثية : 24).
وقال تعالى عنهــم أيضًا : (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ) (الأنعام : 29).
والدهر هو مر الزمان الطويل، وطول العمر، واختلاف الليل والنهار.
وقالت فرقة منهم : إن الأشياء ليس لها أول البتة، وإنما تخرج من القوة إلى الفعل، وإن العالَمَ دائمٌ لم يزل ولا يزال (20).
وهـــؤلاء قديمًا، يتفق معهـم حديثًا -في أصل نظرتهــم للكــون والحياة- الشيوعيون.
والشيوعية : مذهب فكري يقوم على الإلحاد -أي إنكار وجود الله سبحانه، والغيبيات كلها- وأن المادة هي أساس كل شيء.
وتُفسِّر الشيوعيةُ التاريخَ بصراع الطبقات وبالعامل الاقتصادي.. وشعارهم : نؤمن بثلاثة : ماركس (21)، ولينين (22)، وستالين (23)، ونكفر بثلاثة : الله، والدين، والملكية الخاصة!
وينكرون الآخرة، ويؤمنون بأزلية المادة، ويحاربون الأديان (24)، والملكية الخاصة (25)، ومن شعاراتهم العسكرية : بالحديد والنار تنتصـر الثورة.
عُرفت الشيوعية بالقسوة والعنف والإبادة الوحشية للمخالفين لها، لكن التطورات الأخيرة فيما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي حملت انفراجًا للأديان.
رابعًا : المشركون :
سمي هؤلاء بالمشركين نسبة إلى الشرك.. والشرك : هو أن يتخذ المرء من دون الله ندًا (أي مثلاً ونظيرًا) يحبه كحبه، ويعظمه كتعظيمه، ويعبده كعبادته، وهذا هو حال مشركي العالم، إذ يسوون آلهتهم برب العالمين (26).
وقد سُئل النبي صلى الله عليه و سلم : أي الذنب أعظم عند الله؟ قال : (أن تجعل لله ندًا وهو خلقك) (27).
فهؤلاء المشركون يقرون بربوبية الله تعالى في الجملة، وأنه الخالق المالك، ولكنهم لا يفردونه -سبحانه- وحده بالعبادة والتوجه، بل يجعلون معه غيره -ليقربهم إلى الله- مما يستحسنونه من الأصنام والأوثان والشمس والملائكة والنيران والأنَاسِيّ، وغير ذلك.
ومن ملل أهل الشرك ذوات النفوذ والانتشار والأغلبية في ديارها، نذكر : الهندوسية، الكونفوشيوسية، البوذية، السيخية.
المبحث الثاني : موقف الشريعة من المخالفين وأصل علاقتها بهم
مما هو في نطاق اليقين، بإجماع الأمة سلفًا وخلفًا، أن الدعوة الإسلامية دعوة عالميـــة، لقوله تعالى : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء : 107). وقوله : (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرًا لكم) (النساء : 170). وقوله : (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا) (الأعراف : 158).
وفي الحديث الصحيـــح عن جابــر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (أُعطيتُ خمسًا لم يُعطَهُنَّ أحدٌ قبلي) .. وذكر منها : (وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثتُ إلى الناس عامة) (28).
فشريعة محمد صلى الله عليه و سلم ناسخة لجميع الشرائع السماوية والملل الأرضية، ومهيمنة عليها، لها صفة الدوام والخلود، فهي المرحلة النهائية لدين الله، وكلمته الأخيرة للبشرية، لذا فإن الناس جميعًا مخاطبون بها على سبيل الوجوب، وعليهم جميعًا الاستجابة لتعاليمها. فهي دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها جميعًا، وهي منهاج حياة فاضلة تبتغي رقي الإنسان، عقلاً ووجدانًا وأخلاقًا.
جاءت هذه الشريعة لتستوعب الحياة كلها، واتسعت لتخاطب الجن أيضًا وتدعوهم إليها، فهي إذن ليست بإقليمية ولا عنصرية، بل عالمية عامة، وبناءً عليه فهي تعترف بمجتمعات المخالفين اعترافًا واقعيًا بطبيعتهم الإنسانية.
ومادامت هذه هي طبيعتهم، فأساس العلاقة بينها وبين أهل الملل الأخرى هي علاقة دعوة، وهداية بالحجة، وبيان بالمنطق والبرهان، وتعتبر المخالفين لها في ضلال وعلى أباطيل، قال تعالى : (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) (الحج : 62).
وقــــد اختلف فقهاؤنا حـــول توصيــل هــذه الدعــوة إلى المخالفين على فريقين :
الفريق الأول : وهم جمهور الأقدمين، يرى أن تعدّ القوة، وتجهز الجيوش، ثم تسير إلى ديار المخالفين، وقبل البدء بالقتال يخيّرون بين الإسلام والجزية (29) -إن كانوا من أهلها- والحرب (30).
كمـــا يـــرى أن أصــــل العلاقـــة بين الإســـلام والكفـــر هو الحــرب، وأما السَّلْم (31) فهو أمر استثنائي ولظروف طارئة، وسبب هذه الحرب هو الكفر، كقوله تعالى : (واقتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) (البقرة : 193). وقوله : (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) (التوبة : 5). وقوله : (وقاتلوا المشركين كافة ) (التوبة : 36).
وفسّروا (الفتنة) الواردة في الآية الأولى بمعنى الشرك، أي قاتلوهم حتى لا يبقى شرك، وتزول الأديان الباطلة فلا يبقى إلا الإسلام.
واستدلوا أيضًا بقول النبي صلى الله عليه و سلم : (أُمرتُ أن أُقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله…) (32) الحديث.
الفريق الآخر : وهم جمهور الباحثين من المعاصرين، وقلة من المتقدمين : يرى أن أصل العلاقة مع المخالفين هو السلم، وأما الحرب فهي أمر طارئ مستثنى.
وقالوا : إن على الدولة إعداد الدعاة وتأهيلهم، لبثهم في ديار المخالفين لنشر نعمة الله (الإسلام) بينهم، ودعمهم بكل ما يقتضيه العمل في حقل الدعوة، مع بقاء علاقات المسلمين بغيرهم على أساس الأمن والمسالمة، لا على أساس الحرب والقتال، إلا إذا أرادت دار الكفر بالدعاة سوءًا، لتفتنهم عن دينهم، وتصدهم عن الدعوة إليه، فعندئذ يجب قتالهم، لأن الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية، ومن ثَمَّ فهي أشد من القتل، لأنه يجب أن تُتاح الفرص المعقولة لإفهام الجماهير ما تُدعى إليه.
ولا يجوز بدء الكافرين بقتال إلا في حالة اعتدائهم على الدين، أو على الدولة الإسلامية، أو في حالة نقضهم للعهود، أو لنصرة المستضعفين.
فالحرب ما هي إلا أداة لإزالة الطواغيت، التي تحول بين الناس وبين سماع الدعوة، والتي تريد الانفراد بالضمير البشري وتدّعي حق الألوهية وخصائصهـــا، ولتقريـر سلطــان الله في الأرض وكلمــة الله وعدلـــه. فالحرب إذن هي سياج لفكرة الحق والعدل، وعدم البغي والعدوان، التي ما فتئ القرآن يقررها في كل مناسبة (33).
يقول سيد قطب رحمه الله، عند قوله تعالى : (وَيَكُونَ الدِّينُ لله) : (استعلاء دين الله في الأرض، بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول، ولا يخاف قوة في الأرض تصده عن دين الله أن يبلغه، أو يستجيب له، وأن يبقى عليه. إنه الجهاد للعقيدة لحمايتها من الحصار، وحمايتها من الفتنة) (34).
واستدلوا على ذلك بما يلي :
من القرآن قوله تعالى : (وقاتلوا في سبيل الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) (البقرة : 190). وقوله تعالى : (لا إكراه في الدين) (البقرة : 256). فأفادت أن وسائل القهر والإكراه، ليست من طرق الدعوة إلى الدين، لأن الدين أساسه الإيمان القلبي والاعتقاد، وهذا الأساس تكوّنه الحجة لا السيف.
وقوله تعالى : (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) (الأنفال : 61).
وقالوا : إن المأثور المتواتر من سيرة النبي صلى الله عليه و سلم، وخلفائه الذين ساروا على هداه، أنهم لم يقاتلوا إلا الأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين بدءا، أو نكثًا بعد عهد.
ورد الفريق الأول بأن هذه الآيات منسوخة بآية السيف.
وقــالوا : وقـد عمـت الآيـــة جميـــــع المشـــركين، وعمــــت البقـــــاع إلا ما خصصته الأدلة من الكتاب والسنة (35).
والحقيقة أن القول بالنسخ (36) فيه خلاف واسع بين الفقهاء والمفسرين، مع اتفاقهم على أن لا نسخ إلا بدليل (37). فالقضية إذًا خلافية، والفيصل في ذلك سيرة النبي صلى الله عليه و سلم، وهديه في الغزو والجهاد.
يقول محمد عــزة دروزة رحمــه الله (38) : (مــن الثـابت أن النبــي صلى الله عليه و سلم لم يقاتل إلا الأعداء المعتدين، والناكثين لعهودهم) (39).
ويقول محمد أبو زهرة رحمه الله : (إن الإسلام ما سلَّ سيفًا على طالب حق، وما اعتدى على أحد، ولكن كان اعتداء غاشم، وكان ملوك أرهقوا رعاياهم، وضيّقوا عليهم، ومنعوهم من أن يصل إليهم نور الحق، وقتلوا مَن آمنوا بالحق الذي أدركوا، والدين الذي ارتضوا، فكان قانون التعاون أن يرد كيد الظلم، وأن يرفع عن تلك الشعوب المنكوبة بحكم الطغاة نير العبودية والاسترقاق، وقد كانت -أي الحرب- لذلك، وأن السكوت في هذه الحال ليس من التعاون، بل والحرب العادلة هي التعاون، لأنها منع للفتنة في الدين) (40).
قلت : هذا القول لا يخرج عن دائرة الصواب.
فالناظر في سيرة النبي صلى الله عليه و سلم والمتمعن فيها، تتأكد في قرارة نفسه هذه المقـولة (41). فمشركــو قريش كانـــوا أشـــد الناس عـــداوة لمحمــد صلى الله عليه و سلم، فلم يتركوا وسيلة ولا سبيلاً يُضعفه أو يضعف من شأن دعوته بل يقضي عليه إلا سلكوه، بدءا بتكذيبه في مكة واضطهاده مع أتباعه، وانتهاءً بغزوة الأحزاب، تلك الغــزوة التي حشــدت لهـــا قريش كـــل ما تملك، وجاءت بقَضِّها وقَضِيضِها، يؤازرها في ذلك من يواليها من القبائل العربية المشركة، ويتفق معها في العقيدة، بتحريض من أعداء الله يهود بني قريظة لوأد ذلك الحق الذي قلب الموازين، وغيّر نظام المجتمع السائد، وبعد أن انجلى الأحزاب عن المدينـــة، قــال النبي صلى الله عليه و سلم : (الآن نغزوهـــم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم) (42).. لماذا؟
لرد الاعتداء وظلم الظالمين، الذين ما برحوا يثيرون مخاوف المسلمين، ويفتنونهم عن دينهم بشتى صنوف التعذيب، ويخرجونهم من ديارهم، ويستولون على أموالهم!
وأما القبائل العربية الأخرى، فكانت منقسمة في ولائها بين فارس والروم، وقد بلغ تهديد تلك القبائل وتخويفهم للمسلمين مبلغه بتحريض من متبوعيهم.
اقرأ ما قاله عمر رضي الله عنه : (…وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبتُ أتاني بالخبر، وإذا غاب كنتُ آتيه بالخبر، ونحن نتخوّف ملكًا من ملوك غسان، ذُكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه…) (43).
وأما الفرس والروم، فيكفي منهما أنهما كانا يؤلبان القبائل التابعة لهما للقضاء على أي قوة، أو عقيدة تجمع الناس من جديد، وتنافسهم في المنطقة الموالية لهما للانفراد بالتسلط والسيطرة، ولم يكتفوا بذلك، بل إن (هرقل) أخذ يضطهد من أسلم من عرب الشام، ويقتلهم، وكان (كسرى) (قد أرسل من يأتي برأس الرسول الأمين) (44)، حين أرسل إليه كتابه يدعوه فيه إلى الإسلام، ورَفْعِ الحجب عن عقول وضمائر رعيته، بالإضافة إلى تهديدهما الفعلي للدولة الإسلامية.
وتكفي هذه الجرائم لتحمل الرسول صلى الله عليه و سلم وخلفاءه من بعده للخلاص من هاتين القوتين الباغيتين، اللتين وقفتا من الدعوة وأصحابها موقف الجبار العنيد، لما أصبح للمسلمين من قوة ضاربة قادرة على دك عروش القياصرة والأكاسرة.
فالحرب في الإسلام ليست هجومية لدك أبواب الكافرين، المسالمين منهم والمعاندين، والله سبحانه ما أراد إفناء الكفـار ولا خلقهـم ليُقتلوا كما قال ابن الصلاح.. وليست هي دفاعية تنتظر من يغزو ديار المسلمين، ثم تهب لتقاتلهم بعد أن يصبح زمام المعركة في يد المعتدين، وإنما هي دفاعية عن الإسلام ودعوته وأهله، تحريرية هجومية تهجم على مَـــن يقف في وجـــه الدعـــوة، بحسب مــا يقتضيـــه الموقــف، بلا بـغـــي ولا عدوان.
يقول صاحب كتاب : (علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى) : (وهذه الصلة القائمة -بين المسلمين والمخالفين- على العقيدة لتتخذ شكل منهج متكامل العناصر، ليواجه مختلف الاحتمالات بما يناسبها من عناصر هذا المنهج، وإن استخدامها ليدور مع مصلحـة الدعـوة وجودًا وعدمًا، فلا يعقل وصفها بأنها دفاعية أو هجومية، وإنما الوصف الملائم لها، أنها عنصر من عناصر المنهج الذي تواجه الدعوة به مختلف الاحتمالات والظروف) (45).
وكنت أتمنى على مَن كتب من المعاصرين عن دوافع الجهاد، واعتبره هجوميًا، وشنّع على المخالفين لمذهبه تشنيعًا قاسيًا عنيفًا -أخرجه من دائرة الباحث المنصف الملتزم بأخلاقيات وآداب البحث العلمي- واعترض عليهم بأنهم لم يعولوا على تفاسير السلف الصالح للآيات المتعلقة بالقتال وأحكامه، التي احتجوا بها، تمنيت على هؤلاء المعترضين أن لو اطلعوا على تفسير الطبري، الذي هو قِبلة المفسرين من بعده وشيخهم، وهم عيال عليه في هذا الفن، وتفسيره تفسير بالمأثور، وهو أسبق من تفسير ابن كثير والشوكاني وغيرهم، من الذين اعتمد عليهم القائلون بأن الجهاد في الإسلام للهجوم، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى(46).
المبحث الثالث : أقسام ديار غير المسلمين بحسب موقفهم من الإسلام وأهلـه:
جرت عادة فقهائنا الأقدمين على تقسيم الدنيا إلى دارين رئيسين هما : دار الإسلام ودار الكفر. واشتقوا وصف كل دار من عقيدة أهلها، وطبيعة النظم السياسية الحاكمة، والقواعد القانونية المسيطرة فيها.
وتأسيسًا على هذا الاعتبار سُميت بلاد غير المسلمين بدار الكفر.
فماذا قال فقهاؤنا في تعريفها، وما هي أقسامها؟
قالوا : (هي الدار التي تكون فيها الغلبة لغير المسلمين، أو التي تظهر أحكام الكفر، ولا يمكن إظهار أحكام الإسلام فيها) (47).
ودار الكفر تنقسم إلى دارين : دار حرب، ودار عهد.
أولاً : دار الحرب :
(هي الدار التي يكون بينها وبين ديار المسلمين حرب قائمة أو متوقعة، ولا يربطنا معها عهد ولا صلح).
فهذه الدار ليست في حالة سلم مع المسلمين بسبب موقفها العدائي الصارخ، كاعتداء عسكري فعلي، أو صد عن دين الله، أو عدوان على الدعاة، أو إعانة من يحاربنا ويسلب أرضنا، وما شابه ذلك.
ومن هنا أوجب الله على المؤمنين اتخاذ الحيطة والحذر للذَود عن حِياض الإسلام وأهله في أي بقعة من بقاعه، التي تتحدد بوجوده فيها، فنظـــرة الشعــوب غيــر المسلمــة إلى هـــذا الـدين وأتباعـــه، نظرة عدائية ماكرة حاقدة. ودار الحرب دار إباحة بإجماع الفقهاء (48).
ثانيًا : دار العهد :
الفرع الأول : تعريف المعاهدة :
المعاهدة هي موادعة المسلمين وأهل الحرب مدة معلومة على ترك القتال -بعوض وبغير عوض- وعلى شروط يلتزمونها(49).
وأجمع الفقهاء على أن أهل الهدنة هم الذين صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم -سواء أكان الصلح على مال أو بدونه- لا تجري عليهم أحكام الإسلام كمــا تجــري على أهل الذمــة، لكن عليهم الكـف عــن محاربــة المسلمين، وهؤلاء يسمــون أهــل العهــــد، وأهــل الصلــح، وأهل الهدنة (50).
وعلــى هـــذا التعريــف، فلا تعتبـــر دار العـهـــد مــن دار الإسـلام إذا لم يستول المسلمون عليها ويتمكنوا من إقامة شعائر دينهم فيها باتفاق (51)، سواء أكان الاستيلاء قد تمّ عنوة وقهرًا أم صلحًا، وسواء أكان الصلح على أن تبقى الأرضون لنا أم لهم، مقابل خراج (52) أو جزية (53)، وتبقى من دار الكفر لعدم التزام حكم الإسلام فيها، ولعدم ظهوره.
وإذا ما تحققت شروط الصلح وتوفرت أصوله العامة، فحكم الإسلام فيه أنه يجب الوفاء بكل الالتزامات والعهود، وعلى هذا إجماع العلماء(54).
ومن شرط الوفاء بالعهد، محافظة العدو -المعاهد لنا- عليه بحذافيره من نص القول وفحواه ولحنه المعبر عنهما في هذا العصر بروحه (55). قـال تعـالـى : (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) (التوبة : 7).. وهنا يجب التنبه إلى نقطة هامة وبالغة الخطورة، قد يغفل عنها بعض الباحثين هي : فمع وجوب مراعاة العهود والاستقامة عليها، فإنه يلزم الإمام الحيطة والحذر والترقب الدائم لحركات العدو المعاهد، ورصد سلوكياته، وعدم أمن جانبه وترك الثغـور رهوًا. إن الحقد لا ينمحي بمجرد حبر على ورق، وهم لا يرقبون فينا إلاًّ ولا ذمة، فيحرم علينا أن نترك الإعداد لمجرد العهد، فيطمع فينا كل وضيع وحقير، وخاصة أننا مستهدفون بالقتل والرد عن الدين، قال تعالى : ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) (البقرة : 217).
الفرع الثاني : موجبات عقد الموادعة والأمان :
قال المفكر السياسي الإسلامي الماوردي : (وعقد الهدنة موجب لثلاثة أمور)(56) :
الأول : الموادعة في الظاهر : وهو الكف عن القتال، وترك التعرض للنفوس والأموال.. (وقد أجمع الفقهاء على أنه إذا دخل مسلم دار الحرب بأمان، أو بموادعة، حرم تعرضه لشيء من دمٍ ومالٍ وفرجٍ منهم، إذ المسلمون على شروطهم) (57).
والمعروف أن الدول اليوم لا تمنح أي راغب في دخول أراضيها تأشيرة دخول إلا على أن يلتزم بدساتيرها وقوانينها العامة التي تقضي بتحريم السرقة والغش وأكل أموال الآخرين بالباطل والاعتداء وما شابه ذلك، وهذا العرف مقارن لحصول الشيء بل سابق عليه.
(وحكم الإسلام فيه أنه يجب الوفاء به ولو لمشرك، ما لم يتضمن شرطًا فاسدًا فيه معصية لله) (58)، وعليه يحرم كذلك قتل نفوسهم، أو إزهاق أرواحهم أو خطفهم والتنكيل بهم، عملاً بقانون الوفاء بالعهد الذي هو (قاعدة العبادة لله وتقواه) (59).
الثاني(60) : (ترك الخيانة في الباطن، وهو ألا يُسِرُّوا بفعل ما ينقض الهدنة لو أظهروه، وهذا يستوي الفريقان في التزامه).
الثالث : المجاملة في الأقوال والأفعال، فعليهم أن يكفوا عن القبيح من القول أو الفعل، ويبذلوا للمسلمين (أحسن) القول والفعل، ولهم علينا الأول (القول) دون الثاني (الفعل) أ.هـ.
قلت : مجاملة المعاهدين لنا بالأفعال لا يوجد في الشرع ما يمنعه، بل قد يكون دافعًا لتقبل الإسلام لدى الكثيرين واعتناقه، وهذا هو غاية الجهاد الأولى في الإسلام(61).
* المبحث الأول : حكم إقامة المسلم في ديار الكفر
* المبحث الثاني : موقف المسلمين المقيمين في ديار المخـالفين حـال تعرضهـم لاعتــداء من أهلهـا
* المبحث الثالث : من أحكام العبادات
* المبحث الرابع : المعامـلات
* المبحث الخامس : النكاح
* المبحث السادس : العادات والحياة اليومية
نقرر هنا قاعدة عظيمة من أهم قواعد الشرع وهي :
أن خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين يتبع المسلم أينما حل وأقام، وأن ديار غير المسلمين ليست بناسخة لشيء من أحكام الشريعة، فما وجب في ديار المسلمين وجب في ديار غيرهم، وما حرم فهو كذلك، وكذا ما أبيح طالما أن المرء يعتنق مبادئ الدين.
وقد وقع اختيارنا في هذا الفصل على ستة مباحث كانت على النحو التالي :
لما كان الأصل في دار الإسلام، أن المسلم فيها يَقْدِر أن يمارس عبوديته لخالقه، ويُعان عليها، وتُوفَّر له وسائلها، ويُذكّر إن قصر فيها، مع شعوره بالأمن والطمأنينة، شرعت الهجرة إليها، بل أُمر بها.
والهجرة في الأصل : (الترك، فعلاً كان أو قولاً) (62). وتأتي بمعنى : (الخروج من أرض إلى أرض) (63) حسًا.
وفـــي الاصطــــلاح : هي هجـــر المقـام بين الكافــــرين والمنافقين الذين لا يمكّنونـــه من فعل ما أمر الله بـــه، ومــن هـــذا قـولـــه تعـــالـــى : (والرجز فاهجر) (المدثر : 5) (64).
أو هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام (65).
وأقول بداية : الأصل أن المسلم لا يقيم إلا في دار المسلمين، وإذا أقام في غيرها فلعذر مع بقاء نية الخروج منها متى رفع السبب، وتهيأت الظروف (لأن نية الاستمرار في دار الكفر لا تحل بلا مبرر شرعي) (66).
حكم الهجرة :
حكم الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمدى إمكانية المسلم ومقدرته على إقامة شعائر دينه بأمان تام، وبعدم خشية الفتنة في دينه ودين أهله وعياله، فإن كان لا يقدر على إظهار دينه ويخاف الفتنة والاضطهاد فيه أو في دين أسرته، ففي هذه الحالة تجب عليه الهجرة متى استطاع عليها، بالإجماع (67).. واستدل لذلك بما يلي :
أولاً : قوله تعالى : (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فألئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) (النساء : 97-99).
ففي هذه الآية أوجب الله على المسلمين الذين يقيمون بين ظهراني المشركين، وليسوا متمكنين من إقامة الدين، أوجب عليهم الهجرة بشرط المقدرة والطاقة. وقالوا : إن الآية عامة في كل مسلم، فقوله تعالى : (ظالمي أنفسهم)، أي بترك الهجرة وبارتكاب الحرام بالإقامة بين الكافرين، من غير أن يتمكن من أداء واجباته الدينية، إن كان قادرًا بأي وجه وبأي حيلة، لأنه غير معذور.
وقوله تعالى : (إلا المستضعفين)، وهذا عذر من الله لهؤلاء في ترك الهجرة، وهم مَن كان استضعافه على حقيقة من زَمَنَةِ الرجال، وضَعَفَة النساء والولدان، وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين بأي سبب، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق.
يقول القرطبي : (يجوز ترك الهجرة عند فقد الزاد والراحلة) (68).
قلت : ومفهوم الزاد والراحلة اليوم، توفر السيولة المالية لديه، والوسيلة التي تنقله.
يقول ابن عباس : (كنتُ أنا وأمي من المستضعفين الذين عذر الله، هي من النساء وأنا من الولدان) (69).
فإن حمل العاجز على نفســـه وتكلّف الخــــروج أُجـــر، وقد دعـــا رسول الله صلى الله عليه و سلم لهؤلاء المستضعفين في صلاته (70).
وقال العلماء : (إن هذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة في حق من أسلم في دار الكفر وفتن في دينه، وقدر على الخروج منها) (71).
ثانيًا : قول النبي صلى الله عليه و سلم : (أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى(72) نارهما) (73).
وحديث معاوية وغيره مرفوعًا، قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) (74).
فحملَ العلماءُ الهجرة في هذين الحديثين على مَن خاف الفتنة واضطهد، وقالوا : (أُمر المسلمون بالانتقال إلى حضرة النبي صلى الله عليه و سلم، ليكونوا معه فيتعاونوا، ويتظاهروا إن حَزَبَهم أمر، وينضموا إلى المؤمنين في القيام بنُصرة الرسول، ويتعلموا منه أحكام الدين ويتفقّهوا فيها، ويحفظوا عنه، وينقلوه) (75).
وكانت فرضًا في عهد النبي صلى الله عليه و سلم على الأعيان، واستمرت بعده لمن خاف (76) الاضطهاد في حريته الدينية.
ومما هو جدير بالذكر أن الهجرة ليست عملية انسحابية هروبية، ولكنها انتقالية من دار الباطل الجبار العنيد إلى دار الحق للالتزام به علانية، وتكثير سواد أهله، والاستعداد معهم للكر على تلك الدار التي حالت دون إسماع الناس دعوة الإسلام.
فالهجرة بالمفهوم القرآني هي تحيز إلى فئة، وهي جماعة المسلمين.
ومن شروط وجوب الهجرة، توفر حرية الانتقال، والدار التي يفر إليها المسلم بدينه.. وبإلقاء نظرة على واقع دار الإسلام المعاصرة، نجد أن هذه الدار غير مؤمنة وغير مهيئة تهيئة كاملة تمكّنها من استقبال عشرات الملايين من المسلمين المضطهدين في العالم. هذا إذا سمحت لهم السلطات بدخولها أصلاً، أو أذنت لهم سلطات بلادهم بالرحيل عنها (77).
ويمكن القول : إن المسلمين الذين يُفتنون في ديارهم من أجل عقيدتهم، وهم غير قادرين على الهجرة، هم معافون إن شاء الله من الإثم، وسوف يُسأل عنهم دينًا مَن تسبب في حدوث هذه الشقاوة والتعاسة لهم، مع قدرته على رفع هذا الحرج عنهم.
ولكن يجب التذكير أن أي جماعة مسلمة في أي بلد من البلاد غير الإسلامية تقدر أن تحمي دينها ونفسها ومالها، فإنه يحرم الخروج منه، ويجب البقاء فيه.
يقول صاحب نهاية المحتاج : (من قدر على الامتناع والاعتزال في دار الكفر، ولم يرج نصرة المسلمين بالهجرة، كان مقامه واجبًا، لأن محله دار إسلام، فلو هاجر لصار دار حرب، ثم إن قدر على قتالهم ودعائهم للإسلام لزمه وإلا فلا) (78).
وفي الجملة، إذا كان المسلمون في ديار المشركين ضعفاء لا يرجون ببقائهم ظهور الإسلام، ويُمنعون من إظهار شعائرهم الدينية والقيام بواجباتها، وجبت عليهم الهجرة متى توفرت شروطها وإلا فلا، مع بقاء نية الهجرة قائمة في القلب، والعمل على قدر وسع النفس لتحقيقها، قال تعالى : (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) (العنكبوت : 56).
وأما من وجبت عليه وهو قادر عليها ولم يهاجر، فإنه يرتكب إثمًا قد يؤدي إلى الردة والكفر، لأن الإقامة على هذه الحال، وترك الدين مع التزام إجابتهم إلى الكفر المقام عليه وارتكاب المحرمات، وترك الفرائض والواجبات، وفعل المحظورات والمنكرات وهو قادر على هجرانها، فظاهر حاله المصير إلى الكفر الحقيقي، والانسلاخ من الدين الحنفي، والانخراط في سلك الملحدين.. فالواجب وقتئذ الفرار من تلك الدار التي غلب عليها أهل الشرك والخسران، إلى دار الأمن والأمان (79).
وأما إذا كان المسلمون يتمكنون من إظهار دينهم بحرية، ولا يخشون فتنة فيه على أنفسهم، أو على أسرهم، فمذهب الجمهور إلى أن هذه الهجرة غير واجبة.
والجمهور يستحبون للمسلم أن يهجر دار الكفر، وإن استطاع إظهار دينه، حتى لا يكثر سوادهم (80)، ويميل إليهم في الرسوم والخُلُق، والعادة، والهيئة، لتأثير الجوار والصحبة.
ويتأكد هذا الاستحباب في زماننا، لشيوع الفواحش في دار الكفر، وضعف السلطة الأبوية.. صحيح أن الزمان قد فسد، وأن البلاد كلها يُجاهَر فيها بالمعاصي، ولكن ينبغي على المسلم في مثل هذه الحالة، أن يختار أقل البلاد إثمًا إن استطاع.
قال البغوي : (يجب على من كان ببلد يُعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك، الهجرة إلى حيث تُهيأ له العبادة، فإن استوت جميع البلاد في إظهار ذلك -كما في زماننا- فلا وجوب بلا خلاف) (81).
ويقول ابن تيمية : (أحوال البلاد كأحوال العباد، فيكون الرجل تارة مسلمًا وتارة كافرًا، وتارة مؤمنًا وتارة منافقًا، وتارة برًا تقيًا وتارة فاجرًا شقيًا، وهكذا المساكن بحسب سكانها، فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة، كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة) (82).
وما يتعرض له المسلمون اليوم في بلدان العالم غير الإسلامي من عدم احترام مشاعرهم الدينية، إلى محاولات الدمج في المجتمعات التي يقيمون فيها، سواء من قِبَل سلطات البلاد أو رغبة من أبناء المسلمين في عملية الاندماج، والتي يترتب عليها رفض للمبادئ التربوية والعادات الإسلامية، وقطع للصلة بينهم وبين عقيدتهم، وتراثهم الديني، (وفرنجة) فكرهم وسلوكهم، والتخلق بأخلاق القوم هناك (83)، إلى التأثر بمناهج تلك البلاد التربوية، والتعليمية في التكوين الفكري والنفسي والاجتماعي، والتي تناقض أخلاقياتنا، وتعاليم ديننا وحقائقه، بالإضافة إلى البيئة، وعلاقة أبناء المسلمين بغيرهم وأثرها عليهم في تكوين شخصياتهم، وطريقة تفكيرهم، مع فقدان جهاز الرقابة في الأسرة، وضعف المؤسسات التعليمية المسلمة في تقديم الخدمات الاجتماعية، وعدم وجودها بالقدر الكافي وبالفعالية المطلوبة، في مقابل ما تقدمه النوادي ووسائل الإعلام من الشرور والفساد والرذيلة (84)، ما يكفي لهــدم ما لدى المسلم من قيم إسلامية ومُثُل عليا.. يضاف إلى ذلك ما تضطلع به المدارس والمؤسسات الكنسية النشطة وغيرها، والتي تعمل ليل نهار، لإخراج الناشئة المسلمة من الإسلام إلى النصرانية وغيرها من الأديان، أو الاكتفاء بدمجها وتذويبها في المجتمعات هناك.
كل ذلك يفرض علينا أن نقول : (إن من لم يستطع مقاومة تلك المحاولات والمؤثرات ومجانبتها، وطأطأ لها رأسه -من أبناء المسلمين- وعاشها بما فيها، فإن قول من قال بحرمة الإقامة في تلك البلاد -والحال هكذا- صائب، وإن توفرت له الحرية الدينية، التي تسمح بإظهار شعائر دينه إن أراد، فإن ما كان ذريعة وسببًا إلى إسقاط عبادة الله بمفهومها الرحــب وإلـى مــوالاة المشـركين فهــو حــرام، ومــا أدى إلــى الحـــرام فهو حرام) (85).
إلا إن كــــان في إقامتــــه مصلحــــة معتبـــرة للمسلمين، (وذلك لأن ما يترتب على بقائه من الخير، سيتضاعف على ما يمكن أن يجعل له من الشر والضرر، على أن يكون قادرًا على إظهار دعوته، وشعائر دينه وهكذا الحكم في إقامته من أجل مصلحة تهم المسلمين، كتعلم نوع من العلوم، أو صنعة من الصنائع أو نحوهما ممـــا تحتاجـــه الأمـــة الإسلاميــة ولا يوجد في ديارهم، أو ليكون سفيرًا لدولة الإسلام عندهم) (86).
لا يخفى على كل مطلع ومهتم بأخبار المسلمين في البلدان غير المسلمة، ما يتعرضون له من فتن ومحن، وصد عن سبيل الله، بالقتل جهارًا وغيلة، وبالسلب الصارخ لأموالهم وممتلكاتهم، وبالاعتداء على مساجدهم وكتبهم الدينية، وعلى أنفسهم وأعراضهم، تحت شعارات مكذوبة لا يحتاج الأمر إلى دحضها وردها، ولكنه الحقد الدفين في أغوار النفوس، والصراع الدائم بين فكرتي الحق والباطل.
وبما أن الكفر ملة واحدة من حيث الموقف من الإسلام، والنظرة إليه، فهي لا تتورع عن تقريع المسلمين، وطردهم، وسفك دمائهم، وتخويفهم، فقد رمت الإسلام والمسلمين عن قوس واحدة، حكامًا وشعوبًا، وعلى المستويين الرسمي والشعبي.
وتعاني بعض الأقليات المسلمة في العالم الكثير من صور الاضطهاد والقمع، الذي يصل إلى حد ذبحهم، وانتهاك أعراضهم، وحرق منازلهم ومتاجرهم، وهدم مساجدهم يومًا بعد يوم، ومحاصرة لغتهم وثقافتهم، لاستبدالهما بلغة وثقافة المخالفين لهم، وخفض نسبتهم في تولي الوظائف الحكومية، بل إغلاق المناصب العليا أمامهم تمامًا.. كل ذلك على مرأى من حكومات الدول التي يعيشون في ظلها.
وقد أدى ذلك إلى أن تتفشى بينهم الأمية والخرافات والجهل والفقر، مع عدم العناية بمناطقهم ثقافيًا، واجتماعيًا، وصحيًا، ويمكن أن نذكر مثالاً على ذلك : مسلمي الهند والفلبين.
فإذا كان الحال كهذا، ما الذي يجب على المسلمين في تلك الديار؟ هل يصبرون أم يقاتلون من يقاتلهم فقط؟ أم يقاتلـون مخالفيهــم كافـة؟ أم ماذا يفعلون؟
لقد أجمع الفقهاء على أنه يحرم على المسلم التعرض لدماء الكافرين وأموالهم إن كان بينه وبينهم عهد وأمان، لأنه يقتضي وجوب أمان المسلمين منهم وحمايتهم، وأمانهم من المسلمين.
ولكنهم أجازوا للمسلم التعرض لأموالهم وأنفسهم، في حال ما إذا غدر بهم ملكهم فأخذ مالهم وديارهم وحبسهم بغير وجه حق، أو فتنهم في دينهم ليرتدوا عنه فعذبهم وقتل منهم، أو فعل هذا غيره بعلمه، ولم يمنعه ورضي به هو وباقي رعيته.. ففي هذه الحالات ينقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين المواطنين، ويكون أهل الكفر هم أول من نقضه، وهذا الحل عام في مال جميعهم، ودم جميعهم.
أما إذا نقض العهد الأتباع ولم يعلم الرئيس بذلك، ففي انتقاض العهد بحق جميعهم وجهان. وكذا إن اغتال حاكمهم بعض أفراد المسلمين، أو فعل ذلك بعض رعيته بموافقته فينتقض العهد بذلك عند الجمهور خلافًا للحنفية (87).
قال الماوردي : إن نقض الأتباع فرضي إمامهم أو باقيهم، انتقض عهدهم. وإن نقضه إمامهم انتقض أيضًا، لأنه لم يبق في حــــق المتبــوع فلا يبقى في حق التابع. فإن نقض الأتباع ولم يعلم الرئيس والأشراف بذلك ففي انتقاض العهد في حق الرعية وجهان :
وجه القول بعدم النقض أنه لا اعتبار بعقدهم، فلذلك لا اعتبار بنقضهم، مع اتفاق الكل على أن العهد ينتقض في حق الطائفة المعتدية إن لم ينتقض في حق الجميع.
وعليه فإن أمام المسلمين الذين يُعتدى عليهم ثلاثة مسالك مختلفة بحسب مقدرتهم وإمكاناتهم وتقديرهم للظروف المعاصرة لهم.
المسلك الأول : إما أن يصبروا على الأذى والاضطهاد لاستضعافهم، ويتحملوا المشاق مع التمسك بعقيدتهم، وهم معذورن في ذلك لأنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي الكافرين، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق، ولو عرفوا ما استطاعوا لأنهم يفتقدون الزاد والراحلة.
وقد يفضلون الصبر على غيره لحاجة في نفوس أئمتهم، كرجاء تحقيق مصلحة كبرى ودرء مفسدة عظمى، فولاة الأمر هناك من علماء ودعاة أعلم بأحوالهم، وأكثر معرفة وإلمامًا بطبيعة المجتمع، ومصلحة الدعوة، ووضع السلطة القائمة، فقد يكون الصبر أجدى وأنجع علاجًا لحالات دون أخرى، وقد قيل قديمًا : (أهل مكة أدرى بشعابها).
ثم إن هناك أحكامًا شرعية تختلف باختلاف حال الإنسان صحة ومرضًا، قوة وضعفًا، فما يصلح في بلد قد لا يصلح في آخر، فقد يفضلون الالتزام بالآيات -في تلك المرحلة- الآمرة بالصبر والمغفرة والإعراض، بالرغم من أن جماهير الأمة يرون بأنها قد نسختها (88) آية السيف.
المسلك الثاني : وإما أن يكتفوا بصد العدوان، وقتل من يشهر عليهم سلاحًا يبتغي إماتتهم والسطو على أموالهم وأعراضهم، والوقوف في موقع المدافع عن دينه ونفسه وما يتعلق بها، ولا يتجاوزون في ذلك إلى من لم يشارك في الإيذاء فعلاً، بالرغم من ظهور ما يؤكد رضاه على ذلك، لظروف يفقهها ويقدرها مسلمو ذلك الإقليم.
وهم في مسلكهم هذا يلتزمون قوله تعالى : (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (البقرة : 194)، كما هو موقف الكثير من الأقليات المسلمة في العالم، وهو موقف شرعي يلتقي مع روح التدرج في الأحكام، ونرى أنه لا حرج في العمل به.
المسلك الأخير : وإما أن يتميز المسلمون عن مخالفيهم، ويعلنوها حربًا عامة، لأن العهد قد انتقض في حق الجميع لتحقق ما يوجب ذلك، ويقاتلوا الحربيين كافة كما يقاتلونهم كافة.
وهم في ذلك ملتزمون قوله تعالى : (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) (التوبة : 36)، ويصبح قتال الحربيين واجبًا على المسلمين ثَمَّ، لتحقق الاستطاعة، وتبقى دار المعتدين بالنسبة لهؤلاء المسلمين دار حرب مباحة إلى حين إنشاء صلح جديد.
قال تعالى : (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانًا مبينًا) (النساء : 91).
ويصبح ما تحت يد المسلمين من دار الإسلام، إن أظهروا فيه شعائر الدين وأقاموا أحكامه، بإجماع الفقهاء.
يحتوي هذا المطلب على ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : هل الكافر طاهر الذات أم نجس الذات؟
الفرع الأول : هل الكافر نجس؟
الأصل في ذلك قوله تعالى : (إنما المشركون نجس) (التوبة : 28).
فما المراد بالشرك؟ وما المراد بالنجاسة هنا؟
اختلف الفقهاء في المشرك على فريقين :
الأول : وهم الجمهور، قالوا : المراد بالمشرك في الآية هو : كل عابد وثن أو صنم. قال الإمام مالك : ولكن يُقاس عليه جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم.
الثاني : وهو مذهب الشافعي، أن الآية عامة في جميع الكفار، وهو قول ابن عمر وجابر بن عبد الله من الصحابة رضوان الله عليهم، ونصره ابن حزم الظاهري(89).
وأما النجاسة، فقد ذهبت جماهير العلماء إلى أن المقصود بقوله تعالى : (نجس)، إنما هي النجاسة المعنوية، أي نجس في الاعتقاد، والدين، أو أنهم أشرار خبثاء، أو اي من باب التشبيه البليغ(90).
وذهب الإمام مالك(91)، والرازي(92)، والألوسي(93)، وأهل الظاهر(94)، إلى أن الكافر (كل كافر) نجس العين.
وأرى أن ما ذهب إليه الجمهور هو الراجح، لما يلي :
أولاً : إباحة الله نكاح الكتابيات للمسلمين، ومعلوم أن ملامستهن وعرقهن لا يسلم منه أزواجهن، وكذا أثاث المنزل ولباس الزوج وغيره. ومع ذلك لم يوجب الشرع من غسلٍ إلا ما أوجبه من غسل من كانت تحته مسلمة.
ثانيًا : إباحة طعام أهل الكفر قاطبة إلا الذبائح، فإنها مقتصرة على أهل الكتاب، ومعلوم أن الطعام لا يسلم من مسهم ومعالجتهم إياه، فلو كانت أعيانهم نجسة حسية للزم منه أن ينجس كل ما يلمسونه، ولاستحال طعامهم إلى خبيث مستقذر فيحرم.
وقد قال تعالى : (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) (الأعراف : 157).
وقد صح أن النبي صلى الله عليه و سلم أكل طعامهم، واستعمل أوانيهم، وقبل هداياهم(95)، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه استعملوا مزادة امرأة مشركة(96).
فالحديث يدل على طهارة المشرك، لأن المرأة قد باشرت المزادة، وقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه توضأ من بيت نصرانية، وقيل من جرة، بدل بيت(97). وكذلك فإن حذيفة استسقى فسقاه مجوسي(98).
ثالثًا : لو صحت نجاستهم لاستفاض بين الصحابة نقل ذلك. والعادة في مثـل ذلك تقضـــي بالاستفاضـــة، فـإذا علمنا هــذا، قلت : لم يصح -مما وقفت عليه- عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن صحابته خبر واحد من القول بنجاسة المشركين، على المعنى الذي قال به الإمام مالك ومن وافقه.
نخلص من هذا كله إلى أن الكافر طاهر العين والبدن (إن لم تكن عليه نجاسة حسية)، نجس في الاعتقاد والدين، وقد ورد في ذلك إجماع(99).
ويترتب على ذلك :
أولاً : طهـــارة ســؤره، وهــو المــاء الذي يبقيـه الشـارب فــي الإنــاء، وجمعها (أسآر).
ثانيًا : طهارة ثيابه وما ينسجه.
الفرع الثاني : هل على الكافر إذا أسلم من غسل؟
الأصل في ذلك أمر النبي صلى الله عليه و سلم لثمامة بن أثال عندما أسلم أن يغتسل(100).
وكذلك مــا رواه قيــس بن عاصـــم عن أبيــــه : أنــه أسلــم، فأمــره النبي صلى الله عليه و سلم أن يغتسل بماء وسدر(101).
الفرع الثالث : هل يجب الختان على من أسلم؟
الختان : هو قطع جميع الجلدة التي تغطي الحشفة عند الرجال.
والحكمة في ذلك لئلا يجتمع فيها الوسخ، وليتمكّن من الاستنزاه من البول(102).
حكمه : ذهب الجمهور إلى أن الختان سنة وليس بواجب، لعدم ورود دليل في ذلك يدل على وجوبه، وهو المشهور وعليه العمل(103)، لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (الفطرة(104) خمس : وذكر منها الختان) (105).
وذهب الشافعي إلى القول بوجوبه على الرجال(106) والنساء(107) جميعًا.
وذهب الحنابلة(108) إلى القول بوجوبه في حق الرجال دون النساء، فإنه في حقهن مكرمة، وقالوا : وهو من شعار المسلمين فكان واجبًا.
واستدلوا بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لواثلة بن الأسقع لما أسلم : (ألقِ عنك شعر الكفر، واختتن) (109).
وسئل أحمد عن الكافر إذا أسلم : ترى له أن يطهر بالختان؟ قال : لابد له من ذلك. قلت (القول للسائل) : إن كان كبيرًا؟ قال : أحب إليّ أن يتطهر، لأن النبي صلى الله عليه و سلم أخبرنا أن إبراهيم عليه السلام اختتن بعد ثمانين سنة(110).
وهو قول الأوزاعي وربيعة الرأي، واللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية(111).
المسألة الثانية : هل الخمر طاهرة أم نجسة؟
الأصل في ذلك قوله تعالى : (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) (المائدة : 90).
وقد فَهِمَ جمهور أهل العلم من قوله تعالى : (رجس)، أن الخمر نجس حسًا ومعنى(112). وقالوا : رجس : أي نجس. وقال ابن عباس : أي سخط. وقال مجاهد : ما لا خير فيه. وقال ابن جبير : إثم. وقال الطبري : إثم ونتن. وقال ابن أسلم : عذاب وشر(113).
وقال الألوسي : (ليس معقولاً في معنى الآية إرادة الرجس بمعنى النجس، فالميسر مثلاً هو لعب القمار لا يعقل فيه نجاسة من طهارة) (114).
قلت : بل أجمع الفقهاء على طهارة الميسر والأنصاب والأزلام(115)، بالرغم من أن وصف (الرجس) عائد إلى الجميع، كما هو السياق لا إلى الخمر وحده.
قال الصنعاني : (والحق أن الأصل في الأعيان الطهارة. وأن التحـــريم لا يلازم النجاسة. فإن الحشيشة محرمة طاهرة، وكذا المخدرات والسموم القاتلة، ولا دليل على نجاستها. وأما النجاسة فيلازمها التحريم. فكل نجس محرم ولا عكس، وذلك لأن الحكم في النجاسة هو المنع من ملابستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها، بخلاف الحكم بالتحريم. فإن لبس الحرير يحرم (على الرجال) وكذلك الذهب(116)، وهما طاهران، ضرورة شرعية وإجماعًا. فإذا عرفت هذا فتحريم الخمر الذي دلت عليه النصوص لا يلزم منه نجاسة، بل لابد من دليل آخر عليه وإلا بقينا على الأصل المتفق عليه من الطهارة، فمن ادعى خلافه فالدليل عليه، ولا دليل من الشريعة صريحًا أصلاً يدل على نجاستها، فتبقى على الأصل وهو الطهارة) (117).
وبهذا الرأي قال ربيعة الرأي، والمزني من أصحاب الشافعي(118)، والشوكاني ومحمد صديق خان.
وأضاف الشيخ محمد رضا(119) : (وإنما كان يصح إلحاق الشرع بالنجاسات الحسية، لو ورد الأمر الصريح بغسل ما أصابه شيء من الخمر، ولم يرد حديث صحيح أو حسن في ذلك).
وكان الصحابة يشربونها، ولا يسلمون من إصابة أيديهم وثيابهم بشيء منها، ولو كانت نجسة لأمروا بالتنزه عنها قبل تحريمها.. ولا يقال :(إنها صارت نجسة بالتحريم، لأن النجاسة لا تختلف باختلاف الحكم، فهي إذًا طاهرة حسًا وشرعًا) (120).
وأما الإمام النووي فلم يسلّم لأدلة الجمهور في نجاستها، وقال : (وأقرب ما يقال ما ذكره الغزالي، أنه يحكم بنجاستها تغليظًا وزجرًا) (121).
قلت : وهذا أيضًا لا يسلم له، فالأزلام محرمة، ولم يقل أحد بنجاستها حتى ولو على سبيل التغليظ.
وأما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بإراقتها فليس لنجاستها -والله أعلم- بل سدًّا للذرائع. فوجودها بصحبة شخص وقد ثمل واعتاد عليها سابقًا، قد يكون سبيلاً لشربها أو بيعها لعمق صلته وارتباطه بها، وكلاهما محرم بالإجماع.
أما الكحول : (وهو سائل عديم اللون، له رائحة خاصة، ينتج عن تخمر السكر والنشاء (وغير ذلك)، وهو روح الخمر، والجمع كحولات) (122).
حكمه : ما قيل في الخمر يقال فيه باعتباره خمرًا، لأنه مسكر، وكل مسكر حرام. وقد أفتت لجنة الأزهر بطهارته، واعتبرت الأشياء التي تضاف إليه لا تنجس به(123). وفي فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا : (الكحول طاهرة مطهرة، ولا وجه لتحريمها ولا يحرم منها شيء) (124).
وعليه فيجوز التعطر بالعطور الإفرنجية التي تضاف إليها مادة الكحول (وهي نسبة قليلة) والادهان بها، باعتبارها طاهرة غير نجسة.
(وكذا بعض أنــواع الصــابون، والشامبـو، وكريم الحلاقــة، وغيرهــا، مما يدخل الكحول في صناعتها) (125).
وجاز شراؤها وبيعها باعتبار أن نسبة الكحول المسكرة في العطور وغيرها تتحلل بالمواد الأخرى، ولا تظهر وتنقلب إلى حقيقة أخرى(126).
المسألة الثالثة : طهارة الكلب(127) :
للفقهاء في طهارة عين الكلب ونجاسته ثلاثة أقوال :
أولاً : أنه نجس حتى شعره، وهذا قول الشافعي، ومالك، وأحمد في إحدى الراويتين عنه.
ثانيًا : أنه طاهر حتى لعابه، وهو المشهور من قول مالك والمالكية.
ثالثًا : أنه طاهر عدا ريقه ولعابه، وهذا هو الصحيح من مذهب الحنفية، والرواية الأخرى عن أحمد(128).
قلت : وأولى الأقوال بالصواب، قول من قال : إنه طاهر عدا لعابه، فإنه نجـــس دون سائــر بدنـــه، وذلك لأن الأصــل فـي الأعيــان الطهــارة، فلا يجوز تنجيس شيء ولا تحريمه إلا بدليل.
ولم يأت ما يدل على نجاسة شيء من الكلب، إلا ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا(129) وزاد مسلم : (أولاهنّ بالتراب) (130).
فدل الحديث على نجاسة لعاب الكلب وفمه، إذ هو محل استعمال النجاسات بحسب الأغلب، ومكان اللهاث(131) يتنجس باللعاب دون سائر بدنه، وأنه يغسل الإناء سبعًا. وبوجوب غسل الإناء سبعًا قول الجماهير(132).
وذهب أبو حنيفة إلى عدم وجوب العدد في إزالة شيء من النجاسات، وقال : إنما يغسل حتى يغلب على الظن نقاؤه منها. واستدل الحنفية بما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في الكلب يلغ في الإناء : (يغسل ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا). وقالوا : فدل الحديث على التخيير.
وأجيب بأن الحديث ضعيف(133).
ورجح ابن رشد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بأنه للندب والإرشاد مخافة أن يكون الكلب كَلِبًا(134)، يدخل على شارب سؤره أو مستعمل الإناء قبل غسله منه ضرر في جسمه، والنبي عليه الصلاة والسلام ينهى عما يضر الناس في دينهم ودنياهم، لا لنجاسة، إذ هو محمول على الطهارة.
فإذا ولغ الكلب المأذون في اتخاذه في إناء فيه ماء أو طعام لم ينجس الماء ولا الطعام، ووجب أن يُتوقى من شربه، أو أكله، أو استعمال الإناء قبل غسله مخافة الضرر(135).
وقد ثبت طبيًا أن لعابه يحوي جراثيم ضارة، تحتاج إلى مطهر قوي لإزالتها(136). وهذا يقوّي نوعًا ما، ما ذهب إليه ابن رشد.
- المطلب الثاني : الصلاة
لا يخفى على كل مسلم أن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام الخمسة، وأن الله تعالى قد فرض خمس صلوات في اليوم والليلة، وأنها تجب على المسلم العاقل البالغ العالم بها، وأن من أنكرها فقد خرج من الملة.
ولمنزلتها العظمى في الإسلام، فقد حذّر الشرع، وتوعّد المضيعين لها، فقال تعالى : (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) (مريم : 59).
وجعل النبي صلى الله عليه و سلم : (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) (137).
وفي هذا المطلب عدة مسائل يحتاج المسلم في ديار غير المسلمين إلى معرفتها، وهي :
المسألة الأولى : مواقيت الصلاة :
وهذه المسألة تنقسم إلى عدة أقسام، وتشمل : تعريف الميقات، ومواقيت الصلاة في البلاد المعتدلة، وكذا غير المعتدلة.
أولاً : في تعريفها لغة وشرعًا :
في اللغة : يقال وقت الله (بتشديد القاف وتخفيفها) الصلاة، أي : حدد لها وقتًا، والميقات : الوقت المضروب للفعل، والجمع مواقيت(138).
في الشرع : المراد به (الوقت الذي عيّنه الله لأداء هذه العبادة (الصلاة)، وهو القدر المحدود للفصل من الزمان(139).
ثانيًا : في مواقيت الصلاة في البلاد المعتدلة :
وأعني بالبلاد المعتدلة : البلاد التي يحل فيها ليل ونهار، ويتمايزان عن بعضهما في كل أربع وعشرين ساعة.
والأصل في مواقيت تلك البلاد، ما رواه مسلم في صحيحه أن سائلاً سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه و سلم شيئًا (باللفظ والقول)، وفي رواية بريدة، فقال له : (صل معنا هذين (اليومين)). قال (راوي الحديث وهو أبو موسى الأشعري) : فأقام الفجر (أي النبي صلى الله عليه و سلم) حين انشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا، ثم أمره (أي أمر النبي صلى الله عليه و سلم بلالاً) فأقام الظهر حين زالت(140) الشمس، والقائل يقول : قد انتصف النهار، وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت (أي غربت) الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أخّر الفجر من الغد حتى انصرف منها، والقائل يقول : قد طلعت الشمس أو كادت، ثم أخر الظهر حتى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى انصرف منها، والقائل يقول : قد احمرت الشمس، ثم أخّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم أخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول (وفي رواية : أن وقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط) (141).
ثم أصبح فدعا السائل، فقال : (الوقت بين هذين)، يعني أن وقت صلاتكم في الطرفين اللذين صليت فيهما، وفيما بينهما.
ثالثًا : في ضبــط الصلاة في البـــلاد غيـــر المعتـــدلة، كالقطبين وما يدخل في حكمهما :
إن ما ورد في الأحاديث الصحيحة من تحديد مواقيت الصلاة وضبطها، إنما هو للبلاد المعتدلة التي كان يقيم فيها النبي صلى الله عليه و سلم، وما يأخذ حكمها، ولكن ما الطريقة لضبط مواقيت الصلاة في البلاد التي لا شهور فيها ولا أيام معتدلة، بل قد تكون السنة في البلاد المعتدلة يومًا، كالجهات القطبية والإسكندنافية التي يطول نهارها صيفًا ويقصر شتاءً، أو البلاد الشمالية التي لا تغيب عنها الشمس إطلاقًا صيفًا وعكسه شتاءً، أو البلاد التي يتداخل ويتحد فيها وقتا العشاء والفجر في بعض أشهر السنة وهي البلاد التي يتجاوز موقعها خط العرض 84 شمالاً أو جنوبًا(142).
سأعرض هنا أقوال الفقهاء في بيان تحديد وضبط أوقات الصلاة فيها، كما هي من كتبهم ثم أناقش وأرجح.
1- أقوال الحنفية :
جاء في فتح القدير ما نصه :
(ومن لا يوجد عندهم وقت للعشاء، كما قيل يطلع الفجر قبل غيبوبة الشفق عندهم، فقد أفتى البقالي بعدم الوجوب عليهم لعدم السبب وهو مختار صاحب الكنز (الزيلعي) (143)، كما يسقط غسل اليدين من الوضوء عن مقطوعهما من المرفقين). ولا يرتاب متأمل في ثبوت الفرق بين عدم محل الفرض (وهو هنا اليدان المقطوعتان من المرفقين)، وبين عدم سببه الجعلي (وهو هنا انتفاء علامة وقت العشاء) الذي جُعل علامة على الوجوب الخفي الثابت في نفس الأمر، وجواز تعدد المعرّفات للشيء، فانتفاء الوقت انتفاء للمعرّف، وانتفاء الدليل على الشيء لا يستلزم انتفاءه لجواز دليل آخر.
معنى كلام ابن الهمام : (أنه إذا عدمت علامة دخول وقت العشاء، وهي غياب الشفق وعدم طلوع الفجر معه، باعتبارها علامة معرّفة له، ليس معناه أن الصلاة تسقط بعدمها، لوجود دليل آخر يدل على وجوبها، وإن لم توجد العلامة الدالة على الوقت). ثم قال : وقد وجد (أي الدليل الآخر الدال على وجوب صلاة العشاء، بالرغم من عدم وجود علامتها) وهو ما تواطأت عليه أخبار الإسراء من فرض الله سبحانه خمسًا (أي الصلاة)، بعدما أمروا بخمسين، ثم استقر الأمر على الخمس شرعًا(144) عامًا لأهل الآفاق، لا تفصيل فيه بين أهل قُطر وقُطر.
ثم ما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر الدجـــال فقلنا (أي الصحــابة) : وما لبثه في الأرض؟ فقال (أي النبي صلى الله عليه و سلم) : (أربعون يومًا، يوم كسنة، ويــــوم كشهـــر، ويوم كجمعـــة، وسائــــر أيامه كأيامكـــم). فقيل : يا رســول الله! فذلك اليــوم الذي كسنــة، أتكفينـــا فيــه صــلاة يــوم؟ قال : (لا، اقدروا له قدره) (145). فقد أوجب فيه ثلاثمائة عصر قبل صيرورة الظل مِثْلاً أو مِثْلين، وقس عليه.
فاستفدنا أن الواجب في نفس الأمر خمس على العموم، غير أن توزيعها على تلك الأوقات عند وجودها، فلا يقسط بعدمها الوجوب وكذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : (خمس صلوات كتبهن الله على العباد(146)) (147).
2- أقوال المالكية :
جاء في مواهب الجليل ما نصه : ورد في صحيح مسلم أن مدة الدجال أربعون يومًا، وأن فيها يومًا كسنة، ويومًا كشهر، ويومًا كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، فقال الصحابة : يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة، أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال : (لا، اقدروا له قدره) (148).
قال القاضي عياض : (في هذا حكم مخصوص بذلك اليوم، شرعه لنا صاحب الشرع) وقال : (لو وُكلنا إلى اجتهادنا لاقتصرنا فيه على الصلوات عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام)، ومعنى (اقدروا له قدره)، أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كل يوم، فصلوا الظهر ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر فصلوا العصر، وهكذا إلى أن ينقضي ذلك اليوم، وقد وقع فيه صلوات سنة كلها فرائض مؤداة في وقتها.
وأما اليوم الثاني كشهر، والثالث الذي كجمعة، فقياس اليوم الأول.
3-أقوال الشافعية :
جــــاء في روضــــة الطالبين : أما الساكنــــون بناحيـــة تقصـــر لياليهم ولا يغيب عنهـــم الشفــق، فيصلـــون العشـــاء إذا مضـــى مــــن الزمـــان قــدر ما يغيب فيه الشفق، في أقراب البلاد إليهم(149). أي فإن كان شفقهم (شفق أقرب البلاد) يغيب عند ربع ليلهم مثلاً، اعتبر من ليل هؤلاء بالنسبة، لا أنهم يصيرون بقدر ما يمضي من ليلهم، لأنه ربما استغرق ذاك ليلهم(150).
4- أقوال الحنابلة :
جاء في غاية المنتهى : ويُقدّر للصلاة أيام (الدجال) قدر المعتاد من نحو ليل أو شتاء ويتجه، وكذا حج وزكاة وصوم(151)، وبمثله قال صاحب الإقناع(152).
ولم أجد من تعرّض لمسألة فاقد وقت العشاء من الحنابلة.
ويتضح لنا من خلال سرد تلك النقول، أن جماهير العلماء يقولون بوجوب صلاة العشاء على أهل البلاد التي ينعدم فيها وقتها، وهو غياب الشفق، معتمدين في ذلك على عموم النصوص الآمرة بإقامة الصلوات الخمس، من غير تفريق بين إقليم وآخر، على سبيل الوجوب، وعلى حــديث (الدجــال) الآمــــر بالتقديــر للصلــوات، والمبيّن وجــوبهـا، وإن لم يوجد سببها على وجه العموم.
رابعًا : أقسام البلاد غير المعتدلة، وكيفية ضبط المواقيت فيها :
تنقسم هذه البلاد إلى قسمين :
القسم الأول : قسم لا تغيب عنه الشمس لفترة ستة أشهر تقريبًا، ثم تغيب مطلقًا بقية السنة.
وهذه ينسحب عليها حديث (الدجال)، فيقدر أهلها للصلوات الخمس، حيث يؤدونها كاملة في كل أربع وعشرين ساعة، معتمدين في ذلك على أقرب البلاد إليهم، والتي تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها عن بعض، وعليهم أن يوزعوها على أوقاتها اعتبارًا بالأبعاد الزمنية التي بين كل صلاتين.
ويقاس على ذلك سائر الأحكام المتعلقة بالأيام والأهلّة، من عدة وصوم وزكاة.
يقول الشيخ محمد رضا : (أرأيت هل يكلف الله تعالى من يقيم في جهة القطبين، وما يقرب، أن يصلي في يومه وهو سنة، أو عدة أشهر خمس صلوات فقط؟ كلا، إن الآيات الكبرى على كون هذا القرآن من عند الله المحيط علمه بكل شيء، ما نراه فيه من الاكتفاء بالخطاب العام الذي لا يتقيد بزمان من جاء به ولا مكانه).
فأطلق الأمر بالصلاة، والرسول صلى الله عليه و سلم بيّن أوقاتها بما يناسب حال البلاد المعتدلة، التي هي القسم الأعظم في الأرض، حتى إذا وصل الإسلام إلى أهل تلك البلاد التي أشرنا إليها، يمكنهم أن يقدروا للصلوات باجتهادهم، والقياس على ما بينه النبي صلى الله عليه و سلم من أمر الله المطلق، فيقدروا لها قدرها.. ولكن على أي البلاد يكون التقدير؟ قيل : على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة، وقيل : على أقرب بلاد معتدلة إليهم، وكل منهما جائز، فإنه اجتهادي لا نص فيه (153).
وقد أفتت هيئة كبار العلماء في السعودية، في دورتها الثانية عشرة، بالتقدير على أقرب البلاد التي تتمايز فيها أوقات الصلاة المفروضة(154).
قلت : وفي كلٍّ خير، ولكن بشرط أن يتفق مسلمو تلك البلاد، ومراكزها على بلد معين، حتى لا تختلف صلواتهم في البلد الواحد، فتصلي جماعة بتوقيت مكة، وتصلي الأخرى بتوقيت أقرب البلاد، فيحصل الشقاق والاختلاف، وكل محرم منهي عنه.
القسم الثاني : قسم تتميز فيه الأوقــات عـــدا العشـــاء، فإنه يتحــد مع الفجر.
فالراجح من أقوال جماهير أهل العلم، وجوب صلاة العشاء على تلك البلاد وحُرمة تركها. ولكنهم اختلفوا في وقت أدائها، وفي النية لها، هل تؤدى أداء أم قضاء؟
قلت : الأظهر والأقرب إلى النص (حديث الدجال)، أن يقدر المسلمون في تلك البلاد لوقت العشاء بأقرب البلاد، فتكون صلاة العشاء فيها أداءً، وصلاة المغرب فيه قضاء، لانتهاء وقتها حسب التقدير، وهو قول المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، حيث حدد درجة 45ْ للقياس عليها، وهي درجة إحدى المناطق في فرنسا، يغيب الشفق فيها قبل طلوع الفجر(155). وفي هذا التقدير رفع حرج، وفيه يسر، ويصلح لبريطانيا وما جاورها.
المسألة الثانية : حكم الصلاة في معابد أهل الكفر :
ذهب جمهور الفقهاء إلى كراهة الصلاة في الكنائس وغيرها من معابد أهل الشرك، وعللوا الكراهة بوجود الصور فيها، ولأنها ملعونة، ولأنه لا يتعبد الله في بيوت أعدائه، ولأنها مأوى الشياطين كالحمّام.
وقد روى البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال : (إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور)، ولا فرق بين أن تكون المعابد عامرة أو دارسة (أي تقادم عهدها).
وذهب الإمام مالك إلى القول بالمنع مطلقًا، وهو رواية عن أحمد.
وذهب بعض أصحاب أحمد إلى الجواز مطلقًا(156).
قال ابن تيمية : (والصحيح أنه إن كان فيها صور لم يصل فيها، لأن الملائكــة (ملائكــة الرحمــة لا الحفظـــة، لا تدخـــل بيتًا فيــه صــورة(157)، وأما إذا لم يكن فيها صور فقد صلى الصحابة في الكنيسة) (158).
وإذا جازت الصلاة في كنيسة مع خلوها عن الصور، جازت في أي معبد آخر لا يوجد فيه صور.
ويظهر من كلام الجمهور أن من صلى فيها مع وجود التماثيل فصلاته صحيحة مع الكراهة(159)، وإن كان الأَولى أن ينأى المسلم في صلاته عن مثل هذه الأماكن إذا توفرت له أماكن أخرى ولم يحتج إليها.. أما إذا اضطر إلى الصلاة فيها كخوف برد، أو عدم توفر محل آخر، جازت بلا كراهة، ولا إعادة عليه(160)، فكل أرض مصلى للمسلمين (إلا ما تيقنا نجاسته) (161)، لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل) (162).
ولقدأجاز المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، استئجار الكنائس للصلاة، ولكن أوصى بتجنّب استقبال التماثيل، فإن لم يمكن فإنها تستر بحائل إذا كانت باتجاه القبلة(163).
وهنا أهيب بالمسلمين أن يوفروا ما يحتاجون إليه من مساجد ليستغنوا عن معابد أهل الشرك، وأن يبذلوا في سبيل ذلك ما يقدرون عليه. وأنبه إلى أن معابد أهل الكفر يحرم إطلاق (بيت الله) عليها بالإجماع.
وأما الصلاة في المقابر فقد نقل ابن المنذر عن أكثر أهل العلم أن المقابر ليست بموضوع للصلاة، وأما الصلاة على الثلـــج فقد صـــح عـــن ابن عمر أنه صلى عليه(164).
المسألة الثالثة : الجمع للحاجة :
لا أقصد به جمع السفر، أو المطر، أو المرض، وإنما الجمع الذي يرفع الحرج والمشقة في غير الأعذار السابقة.
فمثلاً هناك بعض البلاد يتأخر فيها غياب الشفق إلى ما بعد منتصف الليل في بعض أيام السنة، وهناك بلاد يطول فيها بعض أشهر السنة، ويقصــر الليل إلى أربـــع سـاعــات، وهنـاك الموظف والطـالب الذي لا يتمكن من أداء الصلوات في أوقاتها لتتابع العمل وضيق الوقت المخصص للراحة، وهناك الشيخ العجوز والصبي.
فجميع هؤلاء يجدون حرجًا وعسرًا ومشقة في أداء بعض الصلوات في أوقاتها المحددة شرعًا، وخاصة أنهم في بلاد غير إسلامية، لا تراعي شعور المسلم في ذلك ولا تقيم لعبادته وزنًا ولا اعتبارًا(165).
فهل يجب على من يغيب الشفق عنده بعد منتصف الليل، أن ينتظر وقت العشاء ليؤديها في وقتها، وهو ملتزم في صبيحة ذلك اليوم بعمل؟ مع احتياجه للنوم والراحة؟
وهل يجب على مَن ليله أربع ساعات أن يؤدي ثلاث صلوات فيها مع هجران النوم انتظارًا للصلاة، وهو أيضًا مرتبط بعمل، وكل الأعمال تتطلـب ذهنًا صافيًا، وبدنًا معافىً، وهـــذا بــــدوره متـوقـف علــى مــــدى ما يحصل عليه الإنسان من راحة وسبات، أم أن هناك رخصة يمكن أن يلجأ إليها المسلم عند الحرج والمشقة، باعتبار (أن المشقة تجلب التيسير)، وأن الحرج مرفوع في ديننا لقوله تعالى : (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج : 78)، وأن الأمر إذا ضاق اتسع؟
انعقد الإجماع على أنه لا يجوز في الحضر أن تصلى الصلاتان معًا في وقت واحد لغير عذر(166). ثم اختلفوا في هذه الأعذار.
فاتفقوا على أن الجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم في وقت الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء جمع تأخير في وقت العشاء بمزدلفة، سنة للحجاج، وعلى ذلك اقتصر الحنفية(167).
وجوّز المالكية الجمع للمقيم بسبب المطر، والطين، والمرض، رخصة توسعة بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء(168).
وجوّزه الشافعية بسبب المطر الذي يبلّ الثياب، وذهب جماعة منهم إلى جوازه بسبب المرض، والطين، والخوف(169).
وزاد الحنابلة في رواية : الثلج، والبرد، والريح الشديد البارد، والمرضع، والمستحاضة، وما في معناها، والمعذور والعاجز عن الطهارة لكل صلاة، وعن معرفة الوقت، ولمن خاف على نفسه، أو ماله، أو عرضه، ولمن خاف ضررًا يلحقه في معيشته بترك الجمع، وقالوا : يفعل الأرفق به، من تأخير الأولى إلى وقت الثانية أو تقديم الثانية إليها(170).
وليس هناك -فيما وقفت عليه- أدلة صحيحة صريحة تدل على جواز الجمع لكل عذر مما ذكره الحنابلة.
قال الإمام الشافعي : (والجمع في المطر رخصة لعذر، وإن كان عذر غيره لم يجمع فيه، لأن العذر في غيره خاص وذلك كالمرض والخوف، وما أشبهه، وقد كانت أمراض وخوف فلم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جمع. والعذر بالمطر عام، ويجمع بالسفر للخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، ولا رخصة في الجمع إلا حيث رخّص النبي) (171).
ولكن يمكن أن يستدل للحنابلة (الذين هم أوسع المذاهب الأربعة في الجمع)، بما رواه مسلم وغيره، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة، من غير خوف ولا مطر.
قيل لابن عباس : ما أراد إلى ذلك؟ قال : أراد ألا يحرج أمته(172).
وهو مروي أيضًا عن ابن مسعود من طريق ضعيف كما قال الهيثمي، ولكن خالفه الشوكاني وصحح تلك الرواية(173).
فدلّ الحديث على جواز الجمع الحقيقي، بشرط تحقق الحرج والمشقة عند عدم الجمع، لقوله : (أراد أن لا يحرج أمته).
ومن هذا الحديث استنتج الجمهور جواز الجمع للمرض وما في معناه. وقالوا : (إن مشقة المرض فيه أشد من المطر) (174).
قلت : فإذا جاز الجمع بسبب المرض لما في الصلاة بوقتها معه من المشقة، جاز بأي عذر يترتب على ترك الجمع ضيق وحرج لا يحتمل، ويشترط ألا يتخذ ذلك عادة، وألا يتوسع فيه.
وممن قــال بهذا : ربيعـــة، وابن المنـــذر، وأشهـــب، وابن سيــرين، وعبد الملك من أصحاب مالك، والظاهرية(175). وبه قـــال الشيـــخ محمــد أبو زهرة(176)، والشيخ يوسف القرضاوي، الذي يرى جواز (الجمع بين الصلاتين في حالات نادرة، وعلى قلةٍ، لرفع الحرج والمشقة) (177).
وبالنسبة لمن يتأخر عندهم غياب الشفق، أو يقصر ليلهم، فليأت من الصلوات في أوقاتها ما يقدر عليه(178)، فإن غلبه النعاس فنام وفاتته الصلاة فليصل ما فاته عنـد استيقاظـــه -فإنه ليس فــي النــوم تفريــط- على الترتيب.
وأما من وجد مشقة معتبرة في انتظار الصلاة، وخاف إن نام ألا يقوم للصلاة، وذلك يعرف بالعادة، فهناك رواية عند الحنابلة فقط بجواز الجمع بغلبة النعاس(179).
وهنا يجب التنبيه إلى أمر جد خطير وهو : أن إساءة استعمال هذه الرخصة التي ترفع المشقة والحرج، وذلك باتخاذها عادة لتحقيق غاية الراحة، وبالتوسع فيها من غير عذر معتبر، يبطل الصلاة.
فإن العلماء قد أجمعوا على أن الصلاة في غير وقتها بغير عذر شرعي باطلة، وكأنه لم يصلها، لأن الوقت لها شرط صحة.
المسألة الرابعة : صلاة الجمعة :
(أجمع العلماء على أن الجمعة واجبة، وفرض عين، وأن تركها إثم بلا خلاف) (180)، لقوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) (الجمعة : 9).
وجاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : (لينتهين أقوام عن وَدْعِهِم (تركهم) الـجُمُعات أو ليَخْتِمَنَّ اللهُ على قلوبِهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين) (181).
وقتـهــــــا :
ذهب جمهور العلماء إلى أن وقت الجمعة هو بعد الزوال(182).
وإن وقعت قبله فلا تجوز، إلا عند أحمد وابن راهويه وعطاء لما رواه مسلم : (كنا نصلي مع رسول الله الجمعة ثم نرجع فنريح نواضحنا (أي إبلنا) حين تزول الشمس).
قلت : ومجموع الأحاديث يدل على أنها تصح حال الزوال وقبله(183).
وفي المغني والشرح(184) : المستحب إقامتها بعد الزوال للأدلة وفي ذلك خروج من الخلاف.
قلت : إن اضطرت جماعة في دار الكفر إلى تقديمها على الزوال بدافع المشقة والظروف الحرجة فيمكن أن يعملوا بقول أحمد ومن معه، وهو قول ابن عباس والشوكاني(185)، على ألا تتقدم عن الزوال بوقت طويل، لأن الحديث الذي استدل به أحمد يدل على أن الزوال يبدأ بعد الانتهاء من الخطبة والصلاة حسب ظاهره.
وإن لم تكن هناك مشقة، أقيمت بعد الزوال وهو عمل السلف.
وقد أجاز الإمام مالك الخطبة قبل الزوال دون الصلاة(186).
وأما عن آخر وقتها، فالجمهور على أنه آخر وقت الظهر.
ثالثًا : هل تصح الخطبة بغير العربية؟
أجمع العلماء على أن الخطبة شرط(187). فهل تصح بغير العربية؟
أقول بداية : إن توفر إمام يحسن إقامة الجمعة، لهو من فروض الكفايات، بحيث لو قصرت جماعة أثموا جميعًا بالتقصير، لقوله تعالى : (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) (التوبة : 39).
وأما عن صحة الخطبة بغير العربية، فقد ذهب الجمهور إلى أنها تشترط بالعربية، لأنه ذكر مفروض، فشرط فيه العربية كالتشهد، وتكبيرة الإحرام، ولأنه فعــل النبي عليــه الصـــلاة والســلام، فقــد كــان لا يخطب إلا بالعربية.
وذهب أبو حنيفة إلى جوازها بغير العربية، بعذر وبغير عذر، وأجازها صاحبــاه بعـــذر، وكـــذا الحنابلة. وعندهــم روايــة توافـق رأي أبي حنيفة ولكنها مرجوحة في المذهب(188).
وإذا قيل : ما فائدة الخطبة بالعربية إذا كان المستمعون لا يفهمونها؟
قيل : (فائدتها العلم بالوعظ من حيث الجملة، قاله القاضي حسين من الشافعية)(189).
قلت : وما فائدة العلم بالوعـظ الإجمالي مادام المستمـــع لا يعقـــل ولا يدري ما يقال له؟ وهل الخطبة بالعربية مقصودة لذاتها حتى يقال بأنها لا تصح بغيرها، وإن كان القوم لا يفهمون منها شيئًا؟ أم لما تحويه من تعليم وتوعية؟
وللخروج من الخلاف، وليطمئن كل مسلم إلى أن صلاته صحيحة، يمكن اتباع إحدى الطريقتين الآتيتين :
الأولى : أن يأتي الخطيب بأركان الخطبة -التي قال بها الموجبون للعربية- بالعربية، ثم يأتي بالوعظ بلغة السامعين للحاجة والعذر.
والأركان هي : الابتداء بحمد الله، قراءة آية أو أكثر من القرآن، الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم، الوصية بتقوى الله، والدعاء للمسلمين.
الثانية : أن تلقى الخطبة بالعربية ثم تترجم، سواء في أثنائها، أم بعد الانتهاء من صلاة الجمعــة، ســـواء من قِبـل الخطيب نفســـه، أم مــن آخــر يقوم مقامه.
ونستطيع أن نقول : إنه يجوز إقامة الخطبة بغير العربية إن كان هناك عذر وحاجة وإلا فلا، مع مراعاة قراءة الآيات كما أنزلت ثم تُتَرجم(190).
ويستحب في الخطبة أن تكون قصيرة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنَّة من فقهه) (191)، أي دليل وعلامة عليه، ولما رواه جابر بن سمرة : (أن صلاة النبي صلى الله عليه و سلم كانت قصدًا وكذلك خطبته) (192).
ويجب لها الإنصات على قول الجمهور لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، والذي يقول : أنصت ليست له جمعة) (193). أي بالقياس على غيره الصامت، ولكن صلاة من تكلم صحيحة بالإجماع(194). ولا يشترط لها أن تكون في المسجد(195). فلو أقيمت في أماكن عامة أو ساحات صحت، وكذا في معابد أهل الكفر للضرورة(196).
ويستحب في خطيب الجمعة أن يكون متخصصًا بدراسة الفقه والفكر الإسلاميين، وأن يكون ملمًّا بثقافة القوم ومشكلاتهم المتنوعة، من أخلاقية، واجتماعية، واقتصادية، وتربوية، وغير ذلك، ليكون أقدر على طرح الحلول ومعالجتها من وجهة نظر إسلامية.
وأن يتطرق إلى المواضيع التي تهم حديثي العهد بالإسلام، من عقيدة، وعبادة، وتركيز على عالمية الإسلام، وخلوده وصلاحه.
وأن يعرفهم بموقف الإسلام من الحركات المنتشرة في بلاد الكفر ليكون المسلم على بينة منها. وأن يشعرهم بأن لهم إخوة من ورائهم يهتمون بمشاكلهم، ويفكرون بحاضرهم ومستقبلهم. وأن يبتعد عن الخلافيات قدر الإمكان، وأن يراعي أوقات المصلين.
خامسًا : فيمن يعذر بتركها :
يعذر بترك الجمعة : المرأة، والصبي، والمسافر، والمريض الذي يشق عليه حضورها، وأيام الوحل والمطر الذي يبل الثياب، والريح الشديدة، والحر والبرد الشديدين، والزَّمِن، والأعمى الذي ليس له قائد، ومن له مريض يخاف ضياعه، لأن حق المسلم آكد من فرض الجمعة، ومن بحضرة طعام وهو محتاج إليه، والعريان، والذي يخاف من ظالم على نفسه أو ماله، ومن هو بعيد عن مكان إقامتها، بحيث لو حضر لشق عليه الأمر(197).. ولا يدخل ضمن الأعذار طلاب العلم في تلك الديار، ولو اقتضت بعض المــواد الدراسيـــة حضــــوره، لأن الجمعـــة من العبـادات التي لا تتكرر، ولا تقع إلا مرة في الأسبوع، فوجب تداركها، وعلى الطالب أن يهيء أحواله للمحافظة عليها في وقتها.
وأجمع أهل العلم على أن من فاتته الجمعة لزمه الظهر(198). وذهب أكثر العلماء إلى أنه إن صلى أصحاب الأعذار قبل صلاة الإمام فلهم ذلك، ولهم أن يصلوا الظهر جماعة.
المسألة الخامسة : الجنازة وبعض أحكامها :
أولاً : حكم غسل الميت :
أجمع الفقهاء على وجوب غسل الميت على الأحياء(199)، من حيث الجملة.. فإن لــم يوجـــد الغاســل المسلــم، فهـــل يصـح غســل الكافــر للميت المسلم؟
ذهب الجمهور إلى جواز غسل المرأة الكتابية لزوجها المسلم، وغسل الرجل لزوجته الكتابية، ونص الشافعي على أن غسل الكافر للمسلم صحيح، ولا يجب على المسلمين إعادته، وبه قال العراقيون(200)، لأن الغسل لا يحتاج إلى نية الحي هنا.
قلت : لم يرد نهي عن ذلك، وغاية ما في الأمر أن الكافر قد يطلع على عيب المسلم أثناء غسله، فلا يؤمن من جانبه أن يشهر به، ويظهره على رؤوس الناس، فأما إذا وجد المسلم ابتداءً فلا يغسله غيره.
ثانيًا : حكم الصلاة عليه :
أجمع الفقهاء على أن الصلاة على الميت المسلم فرض كفاية(201).
ولو حدث أن مُنع أولياء الميت من المسلمين من الصلاة عليه، وجب عليهم وجوبًا كفائيًا أن يصلوا على قبره، فقد ثبت في الصحيـــح أن النبي صلى الله عليه و سلم : صلى على ميت وهو في قبره(202)، ولم ينبشه.
وأما إن تركوا الصلاة عليه عمدًا فيأثموا جميعًا، للإجماع السابق.
ثالثًا : هل يصح الدفن في التابوت؟
أجمع الفقهاء على أن الدفـن في التابوت مكروه(203)، ولا يستعمـــل إلا في حالة العذر فقط(204). واعتمدوا في ذلك على أنه لم يصح أن أحدًا في زمن النبي صلى الله عليه و سلم أو أن النبي نفسه قد دفن في تابوت، بل كانوا يوضعــــون علـى التــراب، ولــــم يصــح أن النبــــي صلى الله عليه و سلم رخــص فيــه أيضًا أو منع منه.
وقد أجاز الفقهاء اتخاذ التابوت إذا كانت التربة رخوة وغير متماسكة، أو كان جسد الميت مهترئًا بالاحتراق، أو مقطعًا، أو أشلاء بحيث لا يضبطه إلا الصندوق.
وقالوا : والسنة أن يفترش في التابوت التراب(205).
وعليه فمن أجبرته سلطات بلاده(206)، على أن يضع متوفاه في صندوق خشبي أو حديدي، فلا شيء في ذلك -إن شاء الله تعالى- للعذر، وإلا فلا يفعله.
رابعًا : هل يصح دفن مسلم في مقابر الكفار؟
اتفق الفقهاء على أنه لا يدفن مسلم بمقابر الكفار، ولا كافر في مقابــــر المسلمين، وإذا دفـــن أحدهمـــا فــي مقبـــرة الآخــــر نبش وجــوبـــــًا ما لم يتغير(207)، لأن الكفار يُعذبون في قبورهم، والمسلم يتأذى بمجاورتهم.
فإذا لم تكن في بعض البلاد التي يسكنها مسلمون مقابر خاصة بهم، فإنه يُنقل وجوبًا(208) إلى بلاد المسلمين، إن أمكن ذلك ماديًا وسمحت سلطات بلاد المسلمين، ولم يخف تغير جثة الميت، وإلا جاز دفنـــه فـــي مقابـــر الكفــار على أن يخصص للمسلمين جــانب منها لهـم، لا يشاركهم فيه غيرهم. فإن لم يمكن جاز دفنه للضرورة، وبه أفتى مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي(209). واقترح أحد أعضاء المجمع(210) أن تراعى عند دفنه في مقابر الكفار درجات الكفر، فمقابر النصارى عند الضرورة أولى من مقابر اليهود، ومقابر اليهود أولى من مقابر الوثنيين والملحدين، وهكذا.
خامسًا : هل يصح أن يحمل كافر في جنازة مسلم؟
لم يرد نهي في ذلك، والأولى ألا يسمح بذلك لأنها قربة من القرب العظيمة، إلا إذا احتيج لذلك قياسًا على قول الشافعي في جواز غسل الكفار للميت المسلم.
سادسًا : الصلاة على الغائب :
لو أن مسلمًا بدار الكفر توفي له مسلم قريب، أم صاحب، أم غير ذلك (في بلد آخر) فهل يصح أن يصلي عليه صلاة الغائب ويصلي معه المسلمون؟
ذهب الجمهور إلى جواز ذ لك، مستدلين بصلاة النبي عليه الصلاة والسلام على النجاشي ومعه المسلمون(211). وقالوا : لا دليل على أن ذلك خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام.
وذهب الحنفية والمالكية إلى أنها لا تشرع.
وقال الخطابي : لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلي عليه(212).
وقال العيني : (إذا مات المسلم في بلد من البلدان وقد قضى حقه من الصلاة عليه، فإنه لا يُصلي عليه من كان ببلد آخر غائبًا عنه، فإن علم أنه لم يصلَّ عليه لعائق أو مانــع عــذر، كـان السنــة أن يصلى عليــه ولا يترك ذلك لبعد المسافة، فإذا صلوا عليه استقبلوا القبلة لا جهة بلد الميت) (213).
قلت : والراجح هو قول الجمهور، لفعل النبي صلى الله عليه و سلم الدال على مشروعيتها، وما أضيف من قيود على جوازها لا يصح، إذ لو كان الأمر كما قالوا لما أخّره النبي عليه الصلاة والسلام ولبيّنه للناس.
سابعًا : في بعض أحكام الميت الكافر ومدى علاقة المسلم بها :
وصورة هذه الجزئية : لو توفي كافر وهو جار لمسلم أو قريب له.. فهــــل يجب عليـه أن يغسلـه ويكفنه، أم هــل يجـــوز ذلك ويصــح منــه؟ وما حكم تشييع جنازته؟ وتعزية أهله؟
أجمع الفقهاء على أنه تحرم الصلاة على الكافر والدعاء له بالمغفرة، لكفره(214)، ولأنه لا تقبل فيه شفاعة ولا يستجاب فيه دعاء، وقد نهينا عن الاستغفار له، لقوله تعالى : (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) (التوبة : 84).
والذي نطمئن إليه، أن الكافر البعيد إذا لم يكن له مَن يقوم بأمره من الكفار، للمسلمين غسله وتكفينه، ودفنه، ومواراته.. أما الكافر القــــريب، فللمسلــم غسـلــه وتكفينــه ودفنـــه، وجــد مـــن يقـوم بذلك أو لم يوجد، من باب صلة الرحم، ومراعاةً لمشاعر القرابة، إذ لا نص يمنع من ذلك. وخاصة إذا كان مسالمًا غير حربي، بل لقد صح أن عليًّا غسل أباه ودفنه بإذن من النبي(215) عليه الصلاة والسلام.. أما الغريب فالأولى والأسلم للمسلم أن ينأى عن ذلك، إلا إذا كانت هناك مصلحة شرعية، أو لم يكن من يقوم من الكفار بذلك، احترامًا لإنسانيته.
فقد صح أن النبي عليــه الصــلاة والسـلام قد كفّن عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلول (رأس الكفر والنفاق)، بناءً على طلب ولده عبد الله(216).
قيل : إن النبي صلى الله عليه و سلم فعل ذلك تطييبًا لقلب ولده، وإكرامًا له (وهو صحابي).
أما اتباع جنازة غير المسلم، فإن كان قريبًا وليس له مَن يقوم فيه، اتفقوا على أن للمسلم تشييع جنازته واتباعها.
وقال الحنابلة : يركب المسلم دابته ويسير أمامه(217).
قلت : إذا صـــح القـــول بــه في دار الإســـلام -فيمـا إذا سلمنــا بــه- فلا يصح أن يقولوا به في دار الكفر، حيث إن المسلمين هناك قليلون مستضعفون، وقد يصيبهم من جراء ذلك ضرر.
وقد قال ابن تيمية : (لو أن مسلمًا بدار حرب، أو بدار كفر غير حرب، لم يكن مأمورًا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر. بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانًا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية، من دعوتهم إلى الدين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة) (218). أما إذا لم يترتب على ذلك ضرر فيتعين.
وقال ابن عباس : وما عليه لو اتبعها(219).
فإذا كان في اتباع جنائزهم مصلحة دينية، أو درء مفسدة، فلا شك في جوازه، سواءً أكان الميت قريبًا أم بعيدًا، ويسلك المسلم عندئذ في تشييعها من حيث المشي أمامها أم خلفها ما يراه مناسبًا.
أما إذا لم يكن قريبًا، ولم تكن هناك مصلحة دينية مرجوة، أو دفع ضرر عن نفسه أو ماله، أو عياله، فذهب الحنفية والشافعية إلى صحة اتباع المسلم لجنازة الكافر(220)، وذهب المالكية والحنابلة إلى خلاف ذلك.
ويمكن أن يُعزي أهله على ما أجازه الجمهور(221). واستحبوا أن يقال في تعزية المسلم بالكافر : (أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك).
وفي تعزية الكافر بالمسلم : (أحسن الله عزاءك وغفر لميتك).
وفي تعزية الكافر بالكافر : (أخلف الله عليك) (222).
ثامنًا : القيام لجنازة غير المسلم :
أما القيام لجنازة الكافر، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم قام لجنازة يهودي مرت به حتى توارت، وقام معه أصحابه.
فقال الصحابة : يا رسول الله! إنها يهودية. فقال : (إن الموت فَزَع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا). وفي رواية أخرى : (أليست نفسًا) (223).
قال بعض السلف : يجب القيام للجنازة إذا مرت.
وقال القرطبي : (ومعنى قول النبي صلى الله عليه و سلم : (إن الموت فزع)، أي يفزع منه، إشارة إلى استعظامه.. ومقصود الحديث أن لا يستمر الإنسان على الغفلة بعد رؤية الموت، لما يشعر ذلك من التساهل بأمر الموت. فمن ثَمَّ يستوي فيه كون الميت مسلمًا أو غير مسلم؟)
وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها، ويضطرب، ولا يظهر منه عدم الاحتفال واللامبالاة.
وذهب جماعة من العلماء(224) إلى أن القيام مستحب غير واجب.
وعند المالكية جائز لا واجب.
وهناك مسألة : إذا مات كافر فشهد عدل بأنه أسلم قبل موته، ولم يشهد غيره، فهل يحكم بشهادته في توريث المسلم ومنع الكافر؟ وهل تقبل شهادته في الصلاة عليه؟
قال النووي في المجموع : لا خلاف أنه لا يحكم بشهادته في توريث قريبه المسلم وحرمان قريبه الكافر.
(وأما في الصلاة عليه فوجهان) (225).
رجح القاضي حسين من الشافعية عدم قبولها في الصلاة عليه(226).
قلت : صح أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرسل أصحابه ليبلّغ عنه القبائل والأصحاب في العقائد وغيرها.
وعليه فلا يصح أن يترك لمن شهد له مسلم عدل بأنه أسلم، للمخالفين ليجروا عليه ما يسمى (بمراسيم الدفن) على حسب دينهم.
- المطلب الثالث : الصيام
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في إثبات رؤية الهلال، وهل يصح الاعتماد على الحسابات الفلكية؟
نقل إلينا فقهاؤنا إجماع السلف على عدم الاعتبار بقول الحسّاب، والمؤقِّتين في الأهلّة، ووجوب اعتماد الرؤية البصرية لإثبات الأهلّة(227)، لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) (228). وقوله : (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) (229).
وقد أفتى المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في هذا المجال فقال : (يجب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد، مراعاةً للحديث : (صوموا لرؤيته)، وللحقائق العلمية) (230).
وذهب ابن الشخير من التابعين، والقرافي وابن الشاط من المالكية، والسبكي من الشافعية، وجماعة من العلماء المعاصرين(231) إلى القول بالحسابات الفلكية في إثبات الأهلة. وقالوا : (إن الحساب يفيد القطـــــع، وإن الحكــــم باعتبـــار الـــرؤية معـــلل بأننا أمة أميــة لا نكتب ولا نحسب، وقد انتفى ذلك، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا).
والذي أميل إليه بالنسبــــة للاعتمــــاد على الحسابــــات الفلكيـــة، أنـــه لا يعمل بها إذا تفردت، عملاً بالنصوص والحقائق العلمية التي أفادت أن اختلاف المطالع أمر مقرر.
ويرى الشيخ القرضاوي : (أنه يؤخذ بها في النفي، بأن نظل على إثبات الهلال بالرؤية، ولكن إذا نفى الحُسّاب إمكان الرؤية كان الواجب ألا تقبل شهادة الشهود بحال) (232).
وهنا تساؤل : هل يصح الاعتماد على الحسابات إذا كان الحُسّاب من الكافرين؟
تم الإجماع على عدم قبول شهادة المخالف في العبادات، والحاسب شـــاهــــد، فلو جــــاء كفــــار وشهدوا أمـــام المسلمين أنهم رأوا الهلال، فلا يُلتفت لشهادتهم، لأنهم ليسوا من أهل الرواية؟ ولأنهم لا يلتزمون الحكم(233). وعلى ذلك فلا يقبل قولهم في الحساب.
تنبيه لابد منـه :
عندما يحدّد ولاة أمر المسلمين في ديار المشركين الجهة التي تثبت الهلال لديها، ويعلنون الأخذ برؤيتها، لا يحل للمسلمين هناك أن يخالفوا، بحيث يصوم البعض على رؤية هذا البلد، وآخرون على رؤية بلد غيره، وآخرون على رؤية بلد ثالث، وهكذا.. والجميع يقيم في إقليم واحد مما يجعلك ترى في البلدة الواحدة الصائم المتبع للهند، والمفطر المتبع للسعودية أو ما شابه ذلك.
فإن في ذلك من الاختلاف المذموم بما لا يخفى، وهو أمر يمقته الله تعالى، فلا يستقيم شرعًا ولا عقلاً أن ينقسم المسلمون في منطقة واحدة على الجهة التي يعتمدون عليها في الصيام والإفطار، كما هي حالهم اليوم، فهذا ما يحرم ارتكابه وممارسته.
فإما أن يصوموا على رؤيتهم الخاصة، وإما أن يأخذوا برؤية أول بلد إسلامي، وإلا كان الاختلاف، وكان الشر.
المسألة الثانية : صيام أهل القطبين :
تقدم أثناء الكلام عن صلاة هؤلاء، أن الراجح في مواقيت الصلاة عندهم أنهم يعملون بالتقديـــر، إمـــا على أقـــرب البـــلاد اعتدالاً إليهــم، وإما على مكة أو المدينة، ولكن كيف يصومون والشمس لا تغيب عندهم إلا بعد ستة أشهر من طلوعها، ثم تغرب ستة أشهر وهكذا؟
الحكم في صيامهم كالحكم في صلاتهم، بمعنى أنهم يقدرون يومهم وليلهم بأقرب البلاد التي يشهد أهلها الشهر، ويعرفون وقت الإمساك والإفطار، والتي تتميز فيها الأوقــــات، ويتســـع ليلهـــا ونهارهــا لما فرض الله من صوم وقيام، على الوجه الذي يحقق حكمة التكليف دون مشقة أو إرهاق، أو بمكة بعد أن يأخذوا برؤية أول بلد قريب، أو بمن يثقون بها من البلدان الإسلامية، ويكون صومهم أداء. ولم يخالف أحد في وجوب الصيام عليهم أبدًا.
المسألة الثالثة : صيام من يطول نهارهم جدًا :
يحدث في بعض الفصول أن يطول نهار بعض دول أوروبا(234)، ويصل إلى عشرين ساعة أو يزيد. وقد يتفق أن يأتي رمضان في ذلك الوقت على أهل تلك البلاد، وغالبًا ما يشكو المسلمون هناك من جراء الصيام من الضيق والحرج.
فهل يرخص لهم بالفطر؟ أم يعملون بالتقدير على البلاد المعتدلة وقتئذ؟
لم تناقش هذه القضية قديمًا، وإنما ناقشها فقهاء معاصرون يمكننا من خلال اجتهاداتهم أن نقول : إن هناك فريقين إزاء هذه القضية :
الفريق الأول : تمثله دار الإفتاء المصرية :
فقد أجازت لمسلمي النرويج، وغيرهم ممن شاكلهم في وضعهم، أن يصوموا على قدر الساعات التي يصومها أهل مكة أو المدينة في حال طول نهارهم وقصر ليلهم، أو أن يقدروا بأقرب البلاد المعتدلة إليهم، وأن يبدأوا بالصوم من طلوع الفجر، ويفطرون مع ميعاد البلاد التي يقدرون بها، من حيث عدد الساعات، ولا يتوقفون على غروب الشمس.
وقال الشيخ شلتوت : (صيام ثلاث وعشرين ساعة من أصل أربع وعشرين ساعة، تكليف تأباه الحكمة من أحكم الحاكمين، والرحمة من أرحم الراحمين) (235).
الفريق الآخر : تمثله لجنة الإفتاء في السعودية، والشيخ حسنين مخلوف.
فقد قالت اللجنة الدائمة للإفتاء بخصوص ذلك ما يلي :
(إذا تميز النهار والليل في مكان ما وجب على المكلفين من سكانه في رمضان أن يصوموا ويمسكوا عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب شمس ذلك اليوم طال النهار أم قصر) (236).
وقال الشيخ حسنين مخلوف ما يلي :
(أما البلاد التي تطلع فيها الشمس وتغرب كل يوم إلا أن مدة طلوعها تبلغ نحو عشرين ساعة، فبالنسبة للصوم، يجب عليهم الصوم في رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس هناك، إلا إذا أدى ذلك الصوم إلى الضرر بالصائم وخاف من طول مدة الصيام الهلاك، أو المرض الشديد فحينئذ يرخص له الفطر، ولا يعتبر في ذلك مجرد الوهم والخيال، وإنما المعتبر غلبة الظن بواسطة الأمارات، أو التجربة، أو إخبار الطبيب الحاذق بأن الصوم يفضي إلى الهلاك، أو المرض الشديد، أو زيادة المرض، أو بطء البرء، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فلكل شخص حالة خاصة، وعلى من أفطر في كل هذه الأحوال قضاء ما أفطره بعد زوال العذر الذي رخص له من أجله الفطر) (237).
والذي يترجح عندي قول الفريق الآخر، لأنه يتفق مع النصوص الآمرة بالصيام على سبيل الإطلاق بمجرد شهود الشهر، وتميز الليل والنهار، فمن ذلك قوله تعالى : (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (البقرة : 185).
فهذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر، أي كـــان مقيمًا في البلد حين دخل شهـــر رمضــان، وهو الصحيــح في بدنـــه، أن يصــــوم لا محالة (238).
وقوله أيضًا : (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) (البقرة : 187).
وهؤلاء يتميز عندهم الليل والنهار، ويتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، أي ضياء الصباح من سواد الليل.
ويلاحظ أن هذه الآيات جاءت على سبيل الإطلاق فشملت كل مسلم لا فرق بين إقليم وآخر، ولا بين من كان نهاره طويلاً أم قصيرًا.
ولقول النبي صلى الله عليه و سلم : (إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم) (239). وهؤلاء يتميز ليلهم ونهارهم بحيث يقبل ليلهم، ويدبر نهارهم، وتغرب شمسهم كل أربع وعشرين ساعة، والحكم منوط بذلك.
المطلب الأول : المعاملات والنصوص الواردة في التعامل مع غير المسلمين
المطلب الثاني : مسائل في المعاملات
إن الإسلام دين استوعب الحياة كلها بتشريعاته، فنظّم علاقة الإنسان بخالقه، وعلاقة الناس بعضهم ببعض، أفرادًا وجماعات.
ولما كان الإنسان لا تسعــه العزلة، ولا يمكنه أن يحقق أمـــور معاشـه إلا من خلال تبادل المنافع مع الآخرين، فقد وضع الشرع ضوابط تحكم أمـــور التعامــل، وبنــاها على أسس سليمة قائمـــة على الحــق والعـــدل، دونما حرج أو عنت.
المطلب الأول : المعاملات والنصوص الواردة في التعامل مع غير المسلمين
المعاملات : هي الأحكام الشرعية المتعلقة بأمر الدنيا، لتصريفها وصيانتها، كالبيع والشراء والإجارة ونحوهما.
وهناك نصوص وقواعد تجيز التعامل مع غير المسلمين :
من القرآن : قوله تعالى : (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائمًا ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) (آل عمران : 75).
ومن السنة : ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل، ورهنه درعه(240).. وثبت أنه اشترى سلعة من يهودي إلى الميسرة(241).
وما رواه عبـــد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنــه قال : (كنـا مـــع النبي صلى الله عليه و سلم ثم جاء رجل مشرك بغنم يسوقها فاشترى منه النبي صلى الله عليه و سلم شاة(242)). وغير ذلك من النصوص.
ومن عمل الصحابة : أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : (كاتبت أمية بن خلف(243) كتابًا بأن يحفظني في صياغتي (أي أهلي ومالي) بمكة، وأحفظه في صياغته بالمدينة) (244).
ومن الإجماع : (أجمع المسلمون على جواز معاملة المسلمين الكفارَ إذا وقع ذلك على ما يحل) (245).
ومن أقوال العلماء : جاء في كشف الأسرار على أصول البزدوي : (ولهذا كان الكافر أهلاً لأحكام لا يراد بها وجه الله (أي لا تحتاج إلى نية كالعبادات)، مثل المعاملات… لأنه أهل لأدائها، إذ المطلوب من المعاملات مصالح الدنيا، وهم (أي الكفار) أليق بأمور الدنيا من المسلمين، لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة) (246).
قال ابن بطال : (معاملة الكفار جائزة، إلا بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين).
وقال ابن حجر : (تجوز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المتعامـــــل فيـــه، وعــــدم الاعتبـــار بفســـــــاد معتقدهـــــم ومعاملاتهــــم فيما بينهم) (247).
فدلت الآيات والأحاديث والآثار وأقوال العلماء بمجموعها، على جواز التعامل مع الكتابي والوثني.
المطلب الثاني : مسائل في المعاملات
المسألة الأولى : حكم التعامل بالربا في دار غير المسلمين :
ذهبت جماهير العلماء إلى أن الربا حرام، قليله وكثيره سواء، لا فرق في تحريمه بين دار الإسلام ودار الحرب، فما كان حرامًا في دار الإسلام كان حرامًا في دار الحرب، سواء جرى بين مسلمَيْن، أو مسلم وحربي، وسواء دخل المسلم دار الحرب بأمان أو بغيره، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وأبو يوسف وغيرهم، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة(248).
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1- عموم الأخبار القاضية بتحريم الزيادة والتفاضل، والتي لم تقيد التحريم بمكان دون مكان، أو بزمان دون زمان، بل جاءت مطلقة وعامة، ومن هذه الأدلة العامة قوله تعالى : (وأحل الله البيع وحرم الربا) (البقرة : 275). وقوله : (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) (البقرة : 278).
ومن الأخبار قول النبي صلى الله عليه و سلم : (اجتنبوا السبع الموبقات)، وذكر منهن الربا(249).
فكل هذه النصوص تفيد تحريم الربا على سبيل العموم، من غير تفصيل ولا تخصيص.
2- ما كان محرمًا في دار الإسلام فهو محرم في دار الحرب، كالربا بين المسلمين وسائر المعاصي.
3- القياس على المستأمن الحربي الذي يدخل دارنا بأمان، فقد أجمعوا على حرمة التعامل معه بالربا، وكذلك إذا دخل المسلم دار الحرب فلا يجوز التعامل معهم بالربا.
قال الشافعي : (لا تُسقط دار الحرب عنهم (أي عن المسلمين) فرضًا، كما لا تُسقط عنهم صومًا ولا صلاة) (250). وقال : (والحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر) (251).
وقال الشوكاني : (إن الأحكام لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا، ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية) (252).
المسألة الثانية : هل للمسلم أن يؤجر نفسه من كافر فيما هــو معصية عندنا؟
صورة هذا التساؤل : أن يؤجر المسلم نفسه لكافر، لبناء معبد للشرك، أو حمل محرم كخمر، أو ميتة، أو خنزير، أو بيعه، أو أن يعمل عنده في معاملات ربوية، أو في مصانع تنتج محرمات، أو ما شاكل ذلك.
فقد ذهب الجمهور إلى حُرمة أن يؤجر المسلم نفسه لكافر في عمل كهذا. فقد سئل الإمام مالك : المسلم يؤجر نفسه للكافر يحمل له خمرًا، فقال : (لا تصلح هذه الإجارة). وقال : (بل لا يعطى عليها إجارة).
والقول بأنه لا يعطى عليها الأجر، رواية عن أحمد(253).
وفي المدونة عن ابن القاسم فيمن رعى خنازير لكافر، قال : تؤخذ الإجارة من الكافر، ويتصدق بها على المساكين أدبًا للكافر، ولا يعطاها المسلم بل ويضرب أدبًا له(254).
وسئل الإمام أحمد : أيبني مسلم للمجوس ناووسًا؟ فقال : لا يبني لهم. وقاله الآمدي، وكرهه الشافعي(255)، ومثله الكنيسة، وما يماثلها عند أهل الكفر(256).
وأما العمل في معاملات ربوية فمحرم، لحديث جابر : (لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال : (وهم فيه سواء) (257).
قال النووي : (هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المرابين والشهادة عليهما) (258). وفي الحديث أيضًا تحريم الإعانة على الباطل أيًّا كان نوعه(259).
والنص هنا عام مطلق، بلا فرق بين من عمل بذلك في دار الإسلام أم في دار الكفر.
نخرج من هذا إلى أنه يحرم على المسلم أن يبني للمشركين دارًا للكفر، أو أن يعمل لديهم ببيع خمر، أو بيع خنزير أو أي محرم آخر، لأنها أفعال محرمة.
فإذا اضطر لذلك جاز، ولكن فليعمل بقاعدة : (الضرورة تقدر بقدرها) فلا يتجاوز قدر الحاجة، ولا يتوسع في ذلك، وليكتف بالكفاف، وليعمل جاهدًا للخروج من هذا الواقع.
وقد أفتى المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، بحرمة العمل في المطاعم من غير ضرورة (أي المطاعم التي تقدم الخمر والخنزير)، وبحرمة تصميم معابد شركية، أو الإسهام فيها.
وأما إذا اضطر للعمل في تلك المطاعم فيجوز، بشرط ألا يباشر نفسه سقي الخمر أو حملها، أو صناعتها، أو الاتجار بها، وكذلك الحال بالنسبة لتقديم لحوم الخنزير، ونحوها من المحرمات(260).
وعلى ذلك يجوز للمسلم أن يؤجر نفسه للكافر بشروط منها :
1- أن يكون عمله مباحًا.
2- أن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين.
3- ألا يشتمل على مذلة وإهانة.
المسألة الثالثة : حكم استقراضهم، واستيداعهم، والاستعارة منهم :
أولاً : استقراضهم :
الاستقراض هو طلب القرض، والأصل في ذلك ما رواه البخاري وغيره(261) أنه لما توفي والد جابر بن عبد الله، ترك على جابر ثلاثين وسقًا(262) لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه و سلم ليشفع له إليه…الحديث.
فدل عدم نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن الاستقراض من المخالفين، على جواز استقراضهم، وأنه لا حرج في ذلك.
ولكن لابد من الإشارة إلى أنه إذا جر الاستقراض إلى الركون إليهم، وموالاتهم والتذلل لهم، فإن : (ما أدى إلى الحرام فهو حرام)، وكذلك إذا تضمن عقد الاستقراض شرطًا محرمًا(263).
ثانيًا : استئمانهم واستيداعهم :
الأصل في ذلك قوله تعالى : (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنه من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليهم قائمًا ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) (آل عمران : 75).
قال الشوكاني : معنى الآية أن أهل الكتاب منهم الأمين الذي يؤدي أمانته وإن كانت كثيرة، ومنهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته وإن كانت حقيرة.. ومن كان أمينًا في الكثير فهو في القليل أمين بالأولى، ومن كان خائنًا في القليل فهو في الكثير خائن بالأولى(264).
قال بدر الدين العيني عند كلامه على استئجار النبي صلى الله عليه و سلم رجلاً من بني الدَّيل هاديًا يوم الهجرة : (فيه ائتمان أهل الشرك على السر والمال، إذا عُهد منهم الوفاء والمروءة، كما استأمن رسول الله هذا المشرك) (265).
وفي الآداب الشرعية : (إذا احتاج المسلم إلى ائتمان كافر، فله ذلك) (266).
ثالثًا : الاستعارة منهم :
الاستعارة طلب الإعارة.. والعارية : ما تعطيه غيرك لينتفع به، على أن يعيده نفسه إليك. والأصل في ذلك ما رواه أبو داود وغيــره، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعـــار مـــن صفــــوان درعًا يـوم حنين، فقــال صفـــوان : أغصبًا يا محمد؟ فقال : (لا، بل عارية مضمونة) (267).
فدلت الواقعة على جواز الاستعارة من الكفار، لأنها من جملة العقود، والإسلام ليس شرطًا في العاقدين، ثم الأصل في المعاملات الإذن والإباحة، إلا ما دل الدليل على التحريم، ولا دليل هنا. (ولأنه ليس فيها ولاية، ولا تسلط على المسلم، بل هما كالبيع والشراء ونحوهما) (268).
المطلب الأول : حكم نكاح الكتابية في دار الكفر
لقد أحل الله نكاح المحصنات من أهل الكتاب مطلقًا، سواء كن في دار الإسلام أم في دار الكفر.
قال ابن المنذر : (ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرّم ذلك) (269).
وقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال : (ينكح المسلم النصرانية، ولا ينكح النصراني المسلمة) (270).
وقول عمر هذا أصح سندًا من نهيه عن تزويجهن(271).
والآية التي تحل للمسلمين نكاح المحصنات من أهل الكتاب هي : (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) (المائدة : 5).
والإحصان في كلام العرب وتصريف الشرع، مأخوذ من المنعة، ومنه الحصن، وهو مترتب بأربعة أشياء : الإسلام، والعفة، والنكاح، والحرية.
ويمتنع الإحصان أن يكون بمعنى الإسلام في هذا الموضع، لأن الآية قد نصت على نساء أهل الكتاب (من قبلكم).
ويمتنع أيضًا أن يكون النكاح، لأن ذات الـــزوج لا تحـــل، فلم تبــق إلا الحرية، والعفة. فاللفظة تحتملهما.
وقد اختلف أهل العلم بحسب هذا الاحتمال إلى فريقين :
الفريق الأول : وهم المذاهب الثلاثة الأوائل فقد قالوا :
إن المراد بالآية الحرائر دون الإماء، وأجازوا نكاح كل كتابية حرة، عفيفة كانت أو فاجرة.
قال الطبري : (وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندنا قول من قال : عَنى بقوله تعالى : (والمحصنات من الذين أتوا الكتاب) حرائر أهل الكتاب… فنكاحهن حل للمؤمنين، كن قد أتين بفاحشة أو لم يأتين بفاحشة، ذمية كانت أو حربية) (272).
وقال الحنفية : (وحل تزويج الكتابية العفيفة عن الزنا، بيانًا للنــدب لا أن العفة فيهن شرط) (273).
الفريق الثاني : ذهب إلى أن المراد بـ (المحصنات) العفيفات، وحرموا نكاح البغايا من الكتابيات.
وهو قول عمر، وابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد، والشعبي، والضحاك، والثوري، والسدي، والحسن، والنخعي، وهو قول الحنابلة، وابن كثير، والشوكاني، والقاسمي(274)، وجماعة من المعاصرين(275).
ويترجح لديّ القول الأخير، وهو أن المراد بالمحصنات : العفيفات، لعدة أدلة :
أولاً : لأن الله تعالى أباح لمن لم يجد الطَوْل (اليسار والغنى)، أن ينكح الأَمَة المؤمنة المحصنة، بقوله : (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات (الحرائر) المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتيكم المؤمنات)، ثم قيّد سبحانه تلك الفتيات المؤمنات بقوله : (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) (النساء : 25).
ومعنى الإحصان هنا العفة، إذ غير ذلك من معاني الإحصان بعيد. والمسافحات هنا : الزانيات اللواتي هن سوق للزنا.
ثانيًا : أن الله تعالى شنّع على ناكحي الزانيـــات بقولــه : (والزانيــة لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) (النور : 3).
حتى إن ثلة من العلماء ذهبــــوا إلى القـــــول بحرمـــة نكــاح الزانيــة ولو مسلمة، قبل إعلان توبتها. فكيف إذا كانت تلك المومس الفاجرة من أهل الكتاب؟
ثالثًا : صح أن حذيفة تزوج يهودية، فكتب إليه عمر أن خلّ سبيلها، فكتب إليه حذيفة : إن كان حرامًا خليتُ سبيلها. فكتب إليه عمر : إني لا أزعم أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات (الفاجرات) منهن(276).
رابعًا : أن الله سبحانه وتعالى ذكر الطيبات في المطاعم، والطيبات في المناكح في الآية (المائدة : 5). والزانية خبيثة بنص القرآن.
ويمكن القول : إنه على الرغم من أن إجماع الأمة قد تمّ على حل الكتابية من حيث الجملة، إلا أن الإجماع أيضًا قد وقع على أن نكاح المسلمة أفضل بكثير من نكاح الكتابية، بل هي أولى لتمام الألفة من كل وجه، إذ أنها تشاركه عقيدته، وفكره، ومنهجه، فتعينه على طاعة ربه، تذكّره إذا نسي، وتشحذ همته إذا قصر، وتخوّفه بالله إذا همّ بمعصية، وتكون له نعم الشريك في إعداد الجيل، فإذا بنى أكملت وحسّنت، وإذا غاب عن بيته اطمأن له ولأسرته، وقامت هي بالمهمة كاملة.
وفي أفضلية نكاح المسلمة يقول الله تعالى : (ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) (البقرة : 221). ويقول : (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (التوبة : 71). ويقول النبي صلى الله عليه و سلم : (فاظفر بذات الدين تربت يداك) (277).
المطلب الثاني : حكم النكاح المؤقت نية دون إظهاره
وصورة هذا النوع : أن رجلاً تغرّب عن دياره ولم ينو إقامة طويلة في تلك الديرة، وفي الوقت ذاته خاف على نفسه من المغريات الجنسية، فنكح امرأة بنية الأجل، ولم يصرح لها بذلك، فما حكم هذا النكاح؟
جاء في شرح الموطأ للزرقاني : (وأجمعوا على أن من نكح نكاحًا مطلقًا، ونيته أن لا يمكث معها إلا مدة نواها، أنه جائز ليس بنكاح متعة). وقال الأوزاعي : (هو نكاح متعة ولا خير فيه.. قاله عياض) (278).
وقول الجماهير فيما إذا لم تفهم المرأة المراد نكاحها مقصود الرجل، فإن فهمت مراده فعند المالكية قول بالبطلان(279).
قلت : لا يضر علمها بالنية، سواء كان قبل النكاح أم بعده، بشرط ألا يصرح لهـــا، لأن الرجل قد ينكــــح ونيتـــه أن يفارقهـــا، ثم يبدو لــه فلا يفارقها.
وعند الشافعية : (وإن قدم رجل بلدًا، وأحب أن ينكح امرأة ونيته ونيتها أن لا يمسكها إلا مقامه بالبلد، أو يومًا أو اثنين أو ثلاثة، كانت على هذا نيته دون نيتها، أو نيتها دون نيته، أو نيتهما معًا دون نية الولي، غير أنهما إذا عقـــدا النكـــاح مطلقًا لا شـــرط فيه، فالنكــاح ثابت ولا تُفسد النية من النكاح شيئًا، لأن النية حديثُ نفسٍ، وقد وُضع عن الناس ما حدّثوا به أنفسهم) (280).
وفي المذهب عند الشافعية : كراهة ذلك، لأنه لو صرح لبطل النكاح(281).
وفي المغني : (وإن تزوجها بغير شرط إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد، فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم وأنه لا بأس به، ولا تضر نيته)(282).
وقد ذهب إلى القول بالكراهة المالكية والشافعية.
قال مالك : (ليس هذا من الجميل ولا من أخلاق الناس) (283).
قلتُ : ويؤكد هذه الكراهة ما يترتب على العقد من غش للمرأة التي جهلت نية الرجل، وخداعها، ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول : (من غش فليس مني) (284)، وكان سفيان بن عُيينة يكره تفسير الحديث، ويقول : (نمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر) (285).
فهل يرضى هذا العمل أحدٌ لبناته أو أخواته أو… فإذا كنا لا نقبله لأنفسنا فكيف نقبله لغيرنا، وقد جاء لفظ النبي صلى الله عليه و سلم : (من غش) على سبيل العموم، فشمل كل غش، وقد أجمع العلماء على تحريم الغش(286).
ثم إن عملاً كهذا يضر بسمعة الإسلام في مجتمعات مخالفيه، فيُشاع عن المسلمين أنهم قوم لا أخلاق لهم، وفي هذا من الضرر بالدعوة ما لا يخفى على كل ذي لب.
وإذا خشي المرء على نفسه الضياع، فلينو الدوام وهذا الأصل، فإن طرأ بعد ذلك طارئ شرعي فليلجأ إلى التسريح بإحسان.
– حكم صلة المشركين
- حكم إلقاء السلام على الكافرين والرد عليهم والقيام لهم
- حكم مصافحتهم ومعانقتهم وتهنئتهم وشهود أعيادهم
- حكم عيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وتعزيتهم
- حكم زيارتهم لتفقد أحوالهم
- حكم تكنيتهم وقبول هديتهم والإهداء إليهم
- عورة المرأة المسلمة بالنسبة للمرأة الكافرة ولأقاربها الكفار
- حكم اقتناء الكلب
الإنسان مدني بطبعه، ينزع بفطرته إلى العيش ضمن جماعة يتفاعل معها، فينشأ عن ذلك ألوان من المواقف الاجتماعية.
ولما كان التشريع الإسلامي شاملاً مستوعبًا لشؤون الحياة كلها، فقد حوى طائفة من التشريعات في هذا المجال، ليكيف المسلم حركته بها، ويضبط سلوكه وِفْقَهَا.
والمسلم يتعامل مع غيره وفق عقيدته، وقيمه، وتصوراته المستمدة من دينه. وأن ما يحمله، أو يجب أن يكون عليه من قيم عالية، وأخلاق سامية، وفكر إصلاحي، هو المنبّه لسلوك الآخرين وتصوراتهم، والذي قد يتبعه تأثير في مواقفهم، أو صدور استجابة منهم، ولا سيما أنه يعيش في مجتمعات لا تستمد تشريعاتها من وحي السماء المعصوم، بل من اجتهادات البشر التي لا تنفك عن التناقض والاضطراب وسطحية النظر.
ونحن في هذا المبحث المهم قد اقتصرنا على أهم مسائله، وعليه فقد جاء على شكل فروع وتساؤلات.
الفرع الأول : حكم صلة المشركين
الأصل في ذلك قوله تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة : 8).
ذهب أكثر أهل التأويل إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، وقالوا في تفسيرها ما يلي :
ففي الطبري : (وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : عنى بذلك جميع أصناف الملل والأديان، أن تبروهم وتقسطوا إليهم، أن الله عمّ بقوله مَن كان ذلك صفته، فلم يخص به بعضًا دون بعض، ولا معنى لقول من قال ذلك منسوخ) (287).
وفــي القرطبــي : (هـــذه الآية رخصـــة من الله تعالى في صلـــة الذين لم يعادوا المؤمنين، ولم يقاتلوهم، أن يبروهم ويقسطوا إليهم، أي يعطونهم قسطًا من أموالهم على وجه الصلة) (288).
وفي ابـــن كثيــــر : (لا ينهاكــــم عــــن الإحســــان إلى الكفــرة الذين لا يقاتلونكم في الدين، وتحسنوا إليهم) (289).
يؤخذ من مجموع ما قيل في تفسير الآية، أن صلة الكافر وبره والإحسان إليه جائز، شرط أن يكون مسالمًا غير محارب، وصِلة غير المسلم والإحسان إليه من مكارم الأخلاق، وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (290)، (فعرفنا أن ذلك حسن في حق المسلمين والمشركين جميعًا) (291).
وتتأكد هذه الصلة إذا كانت لرحم، فقد جاء في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه و سلم (أذن لأسماء بنت أبي بكر أن تصل أمها وهي مشركة) (292).
حكم إلقاء السلام على الكافرين والرد عليهم والقيام لهم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الله صلى الله عليه و سلم.
*بعد هذه الرحلة العلمية التي حاولنا من خلالها التأكيد على شمولية الأحكام الشرعية وعمقها، وبعد أن قررنا جواز الإقامة بين ظهراني غير المسلمين بشرط توفر الحرية الدينية، وأن الأصل في العلاقة مع غير المسلمين السلم، وأما الحرب فهي طارئة تزول بزوال أسبابها، نود التذكير بضرورة ما يلي :
1- أن يستغل المسلمون وجودهم في ديار غير المسلمين في الدعوة إلى الله، من خلال تصحيح المفاهيم عن الإسلام، بالفكر والسلوك، وبشتى الطرق المتاحة والممكنة.
2- أن يستثمروا أي مناسبة في تقديم الحل الإسلامي لمشاكل القوم في مختلف النواحي، حسب الرصيد الفكري، والمخزون الثقافي لدى كل مسلم، وذلك لإقامة الحجة عليهم، وإبراء الذمة من تبعة تبليغ الدعوة.
3- أن يعملوا بشكل دائب قبل كل شيء على وحدة الصف الإسلامي، ونبذ التفرق والتشتت، فإن في ذلك قوة وظهورًا، وخروجًا من الظل إلى معترك الحياة، وإثباتًا للوجود المسلم هناك، وبالتالي الحصول على كثير من الحقوق.
*وبعد أن قررنا أن ديار غير المسلمين ليست بناسخة لشيء من أحكام الشريعة، نذكر بما يلي :
1- وجوب اجتناب المحرمات بكل صورها وأشكالها، إلا حال الضرورة، التي تُقدر بقدرها.
2- وجوب أداء الفرائض الدينية المختلفة، وذلك حسب الطاقة.
3- الاعتزاز بالدين وبما جاء به من تكاليف، وأن المسلــم هــو الأعلـى بما يحمله من قيم وأفكار ومناهج، وبما يقوم به من سلوكيات موافقة لمعتقده، وأن يتجنب الاعتزاز بالدنيا وزينتها، فما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع الغرور.
*وبعد أن قررنا جـواز بِـر غير المسلمين من المسالمين لنــا، نذكر بما يلي :
1- المحافظة على الشخصية الإسلامية من الذوبان في ذلك المحيط الكبير.
2- الحـرص علـــى إبقـــاء حواجـز نفسية تجـاه غير المسلمين وعقائدهم.
3- عدم الركون والرضا بما هم عليه من شرك ومعاصي، فإن أقل أحــــوال تغييـــر المنكـــر إنكـــاره بالقلب، وليس بعـــد ذلك مثقال ذرة من إيمان. وليعلم المسلم أن حسن الخلق مع المخالفين، ليس في الموالاة المحرمة، وأن قيمة الإنسان بقيمة عقيدته.
والحمد لله رب العالمين.
* ولد في شمالي لبنان ، سنة 1961م.
* درس في المعهد الشرعي بمدينة حمص السورية.
* حصل على الثانوية الشرعية من المعهد الديني بدولة قطر، سنة 1981م.
* حصل على البكالوريوس في الشريعة من جامعة قطر، سنة 1985م.
* نال درجة الماجستير في الشريعة من كلية الامــــام الاوزاعي في بيروت ، سنة 1994م، عن رسالته :”الاحكام الشرعية لمسلمي البلاد غير الاسلامية”.
* أنهى اعداد رسالة لنيل درجة الدكتوراة في الشريعة بعنوان : “ابن تيمية بين المذهب والاجتهاد”.
* له تحت الطبع :
- ابن تيمية ..رد مفتريات ومناقشة شبهات.
Hmmmm. English?
السلام عليكم
جزاك الله و جزا معد هذه الرسالة خير الجزاء
أحبك في الله يا شيخ صهيب و أسأل الله أن يبارك فيك و في ذريتك و يرزقك العلم النافع و العمل الصالح
Salam alaikum
My apologies for not getting around to read this earlier even though it was posted some time ago. I still have not been able to give it the full attention it deserves but there is much good in it mashaAllah.
Just wanted to point you to this section because it also relates to mortgages and you asked me about this on the other thread
“المطلب الثاني : مسائل في المعاملات
المسألة الأولى : حكم التعامل بالربا في دار غير المسلمين :
ذهبت جماهير العلماء إلى أن الربا حرام، قليله وكثيره سواء، لا فرق في تحريمه بين دار الإسلام ودار الحرب، فما كان حرامًا في دار الإسلام كان حرامًا في دار الحرب، سواء جرى بين مسلمَيْن، أو مسلم وحربي، وسواء دخل المسلم دار الحرب بأمان أو بغيره، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وأبو يوسف وغيرهم، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة(248).
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1- عموم الأخبار القاضية بتحريم الزيادة والتفاضل، والتي لم تقيد التحريم بمكان دون مكان، أو بزمان دون زمان، بل جاءت مطلقة وعامة، ومن هذه الأدلة العامة قوله تعالى : (وأحل الله البيع وحرم الربا) (البقرة : 275). وقوله : (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) (البقرة : 278).
ومن الأخبار قول النبي صلى الله عليه و سلم : (اجتنبوا السبع الموبقات)، وذكر منهن الربا(249).
فكل هذه النصوص تفيد تحريم الربا على سبيل العموم، من غير تفصيل ولا تخصيص.
2- ما كان محرمًا في دار الإسلام فهو محرم في دار الحرب، كالربا بين المسلمين وسائر المعاصي.
3- القياس على المستأمن الحربي الذي يدخل دارنا بأمان، فقد أجمعوا على حرمة التعامل معه بالربا، وكذلك إذا دخل المسلم دار الحرب فلا يجوز التعامل معهم بالربا.
قال الشافعي : (لا تُسقط دار الحرب عنهم (أي عن المسلمين) فرضًا، كما لا تُسقط عنهم صومًا ولا صلاة) (250). وقال : (والحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر) (251).
وقال الشوكاني : (إن الأحكام لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا، ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية) (252).
”
Additionally I was pointed to some further references regarding juryan al-amal by muhaqiqqeen , and I thought you may also appreciate them.
Amongst them are
usool alfatwa wa alqadaa fee almathhab almaliki – dr. mohammad riyad
and
al-urf wa al-amal fee al-mathhab al-maliki – dr. umar bin abdulKareem
(As you are studying within the maliki school i am sure you are familiar with them)
Regarding an opinion on the history of the use of the concept Dr. Muhammad Riyad mentioned that it came about as a result Maliki scholars looking for ways to dealing with arising issues in the face of the closing of the doors of ijtihad
I would appreciate it if you could also send me an email for the sake of correspondance, there was an issue that is more appropriate to be raised privately and I pray that you find no haraj in that
Wasalam
Abu Abdullah